باسم محمد حبيب
يعدُّ الملك فيصل الأول التي ستمر في 23 آب 2021 الذكرى المئوية لتتويجه ملكا على العراق، من مؤسسي العراق الحديث إلى جانب اسهام شخصيات أخرى، لا سيما الشخصيات البريطانية الثلاث: ونستون تشرشل وبرسي كوكس والمس بيل، وبالطبع هذا لا يعني أن العراق خلق من العدم على يد هؤلاء الأربعة، كما يصرح كثيرون تأثرا بأقوال عدد من الكتاب الأجانب ومن تأثر بهم من الكتاب العراقيين والعرب، إذ كان لما مر به العراق من أحداث جسام ومن فشل في بناء الدولة بسبب سياسيين غير أكفاء في المئة سنة الماضية الأثر في ظهور هذه الأقوال وانتشارها، فالحقيقة أن العراق بلد قديم، لكن ظروفا كثيرة أدت به إلى أن يعاني من مشكلات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية وما إلى ذلك .
إن هناك أسبابا عدة دعت بريطانيا إلى اختيار فيصل ملكا على العراق، بعد احتلالها له في الحرب العالمية الأولى، منها ما هو راجع لها ومنها ما ارتبط بظروف أدت إلى ذلك، فما هو راجع لها شعورها بالتقصير تجاهه بعد خلعه عن العرش السوري على يد الفرنسيين، فقد كانت بريطانيا مدينة له لدعمه القوات البريطانية، التي هاجمت الدولة العثمانية في بلاد الشام عند انضمام الأخيرة إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا وحلفائها، إذ كان فيصل آنذاك يقود قوات والده الشريف حسين بن علي بعد اعلانه الثورة ضد العثمانيين في عام 1916 بتحريض من البريطانيين، اما في ما يتعلق بالظروف الأخرى، التي أسهمت في تعيينه فأهمها ترك بريطانيا لمشروع إخضاع العراق للحكم البريطاني المباشر، الذي أقترحه آنذاك وكيل الحاكم السياسي البريطاني في العراق أرنولد ويلسون بعد نشوب ثورة العشرين ضد الحكم البريطاني وادراك بريطانيا صعوبة حكم هذا البلد بشكل مباشر، فضلا عن وجود ما يؤيده أو ما يؤيد أسرة الشريف حسين في العراق، لا سيما بعد اختيار شقيقه الأكبر عبد الله من قبل الضباط العراقيين الذي أقاموا مؤتمرا في سوريا بالتوازي مع المؤتمر السوري العام، الذي قرر تنصيب فيصل ملكا على سوريا، لكنهم على ما يبدو غيروا رأيهم أو دفعتهم بريطانيا إلى ذلك بعد خلع فيصل عن العرش السوري، ما جعل بالإمكان ترشيحه ملكا على العراق، بقي أن توافق عليه نخب من المناطق العراقية المختلفة، وقد تحقق ذلك بعد الترويج لأصله بكونه من سلالة الرسول، وربما جاء اختياره أيضا لقطع الطريق على ترشيح الشيخ خزعل شيخ المحمرة من بني كعب الذي لم يكن يحظى - على ما يبدو – بالتأييد من بعض الجهات في العراق، ومن ثم أقر مؤتمر القاهرة الذي انعقد في آذار عام 1921 ترشيح فيصل رسميا للعرش العراقي .
وبمرور الأيام ثبت أن هذا الاختيار لم يكن سيئا، فقد كان الرجل يتمتع بصفات كان يحتاجها العراق آنذاك، منها هدوؤه ونظرته العميقة للأمور، وعدم تسرعه في اتخاذ القرارات، والأهم من ذلك نظرته العقلانية وادراكه لصعوبة المهمة الملقاة على عاتقه، لأنه أدرك بعد مدة قصيرة من مجيئه إلى العراق وحتى قبل ارتقائه العرش أن هناك صعوبات جمة قد تقف حائلا أما نجاح مهمته، على رأسها وجود انقسامات كبيرة في نسيج العراق الاجتماعي و نظرة عدائية من البعض تجاه البعض الآخر، فضلا عن تعقيدات أخرى دينية واقتصادية واجتماعية، بسبب طول المدة التي بقي البلد فيها من دون دولة وطنية تشرف عليه، وقد أشار إلى تلك الصعوبات في مذكرة مهمة كتبها قبل وفاته بمدة قصيرة، وعلى ما يبدو كان ينوي عرضها على النخب السياسية أو الاسترشاد بها في المدة القادمة، لكن القدر لم يمهله فوافاه الأجل قبل أن يقوم بذلك، وبموته مبكرا لأنه كان في الخمسين عند وفاته، خسر العراق سياسيا محنكا كان بإمكانه وضع معالجات لكثير من المشكلات، التي استعصت أثناء حكم نجله قليل الخبرة الملك غازي.
لقد حقق الملك فيصل خلال حكمه الذي دام أثني عشر عاما كثيرا من المنجزات، منها توقيعه معاهدة عام 1922 التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال العراق، وكانت كثيرا من بنودها مهمة لتنظيم العلاقة بين العراق وبريطانيا، فضلا عن اسهامه في اقرار القانون الأساسي العراقي عام 1925، وانجاح أول انتخابات لمجلس النواب، وأشرف على افتتاح أول دورة برلمانية عام 1926، وأسهم في انهاء مشكلة الموصل لصالح العراق في العام نفسه بعد مطالبة تركيا دامت عدة سنوات، وأسهم مع نوري سعيد في توقيع معاهدة انهاء الانتداب عام 1930 التي مهدت للعراق الدخول إلى عصبة الأم، على الرغم من أن تلك المعاهدة لم تنجح في ضمان بقاء المساعدة البريطانية التي كان العراق بأمس الحاجة لها في تلك المدة، نظرا للمخاطر التي كانت تهدد وجوده فضلا عن المشكلات، التي من أهمها التخلف الذي كان العراق يعاني منه خدميا واجتماعيا وتربويا وثقافيا وعلميا. ولعل ذلك إضافة إلى وفاة الملك فيصل المفاجئة من الأسباب التي أدت إلى تعرض البلد لأزمات عدة، أولها حصلت أثناء مرض الملك فيصل وخضوعه لعملية جراحية في سويسرا، وهي أزمة الآشوريين أو الآثوريين التي انتهت بمذبحة كبيرة راح ضحيتها المئات من أفراد هذه الطائفة، وقد أنزعج الملك فيصل كثيرا من طريقة ادارة الحكومة للأزمة وأراد تصحيح الأمر، لكن الأجل لم يمهله فتوفى من مضاعفات العملية عام 1933 .
ومن ثم ولأنه واكب مرحلة تأسيس الدولة الحديثة في العراق، ولما قام به من اسهام في بناء الدولة وفي تنظيم العلاقة مع بريطانيا، وهي علاقة كان من الصعب تنظيمها من دون مفاوضات صعبة وشاقة وبادارة سياسيين عقلانيين، مدركين لظروف العراق وحاجاته في تلك المدة المبكرة من تأسيس دولته الحديثة، ولدوره في انهاء الانتداب ودخول العراق إلى عصبة الأمم كأول دولة عربية تحقق ذلك، فأنه يعد من وجهة نظر كثير من المؤرخين من أفضل من حكم العراق في الفترة المعاصرة، ومن ثم يستحق بجدارة لقب باني العراق الحديث وإن
لم يكن هو وحده من أسهم في تأسيسه.