ضحى عبدالرؤوف المل
تعكس الصعوبات الحياتيَّة واقعها على الكاتب الذي يعيش في الأزمات السياسيَّة والاجتماعيَّة، والانحطاط في القيم الإنسانيَّة التي تأكل من بعضها البعض، وتؤثر في الأدبيات بشكلٍ عام، فكل ما يختبره الكاتب في مجتمعه يتحول إلى رؤى تتنوع فيها السرديات بعد أنْ ينفي نفسه عن بقيَّة العالم ليس من قبيل الهروب، وإنما لاستكشاف الأسباب المؤلمة والمصائب الجماعيَّة التي تؤدي الى التشوه والموت والجنون وغيره، فما هي مهمات الأدب في هذه الحالات التي تطرأ على المجتمعات وتمزقها؟ وما هي الصعوبات التي يواجهها الكاتب أثناء الأزمات القوية؟ وهل يتخيل الكاتب واقعاً مستقبلياً لأزمات يعيشها في حاضره؟ أم أنَّ الألم والاستياء والمعاناة والقلق هي عناصر تثير اهتمام الكاتب المتفرد بعزلة جعلته كثير الانطواء؟ أم أنَّ الكاتب هو الباحث عن أسبابٍ أدت الى زعزعة الحالة الاجتماعيَّة وبالتالي فقدانه للاستقرار في الكتابة؟
كل هذه التساؤلات جعلتني أبحث عن قوة الأدب في حالات الضعف التي تصيب المجتمع، والوهن الذي يجعل من القارئ غير مقبلٍ على القراءة، فيبتعد عن أجواء الأدب والثقافة، ليترقب الحلول ويتابع أزمات مجتمعه من تحركات الشارع أو عبر شبكات التواصل، فهل يُصاب الكاتب بالعجز أمام انهيارات تجعله يفتقد لوسائل الراحة والطمأنينة، والتي من المفترض أنْ تمنحه قوة كتابيَّة تخيليَّة إبداعيَّة بعيداً عن التوتر والخوف، وبعيداً عن فقدان الوعي السياسي في مجتمعات يتم تمزيقها لإضعاف هيبتها اجتماعياً وسياسياً، وبالتالي إضعافها ثقافياً وأدبياً لخلق أزمة ثانوية هي أزمة الكاتب، والتشكيك بدوره الأدبي والسياسي والمجتمعي، ووضعه في إطار الاستثنائيات، وهو الذي يرتقي بنفسه ليكون فاعلاً في مجتمع يتحدث إليه من خلال كلمات يكتبها في مقالة أو رواية أو قصة قصيرة، وبعيداً عن العظماء من الأدباء والكتاب مثل زولا وسارتر بالمقارنة مع كتاب هذا العصر والذين يعيشون بين أروقة الكتب وهم منعزلون عن الأحداث التي تنهش بمجتمعهم، ورغم هذا اللوم يقع عليهم لأنهم لم يجعلوا من ملاحظاتهم الأداة القادرة على تحقيق العدالة واكتشاف الحقائق لرفع الظلم عن المستضعفين.
فهل يمكن أنْ يحررَ الكاتب نفسه من سلطة الأدب، ليندمج مع حاضره المجتمعي بالكلمة الحرة والمتحررة من سلطة الأدب، وما تمثله للمجتمع الذي يعيش فيه بعيداً عن الفلسفة؟ أم أنه يكتب ويؤرخ ويحلل لجيلٍ ومجتمعٍ فارقه ولن يعيش فيه إلا عبر كلمته؟ إنَّ اهتمام الكاتب بأزمات مجتمعه يجعلنا نتساءل عن قيمة الأشكال الأدبيَّة التي ينتجها في اللحظات الاكثر صعوبة في زمنه. والتي تمثل قيمة الوعي الاجتماعي والسياسي، وانعكاساتهما على التوتر المجتمعي، وبالتالي على الأدب الذي يكتبه، والذي يندمج تاريخه مع تاريخ الأحداث التي تؤدي إلى انفصال القارئ عن الكاتب، وحصره ضمن دور الأدب في الرواية والقصة بين الماضي والمستقبل، كأنَّ الحاضر لا ينتمي إليه الكاتب إلا ضمن ما تركه من أثر أدبي لجيلٍ جديد، فعزلته التي فرضها على نفسه في الأزمات جعلت من وظيفته الكتابيَّة أزمة أخرى هي أزمة أدبيَّة تمتد وتضعه بين هلالين مع تفرده في لحظات تميته في حاضره، وتحييه في مستقبل يلعب فيه دوراً فاعلاً في خلق الرؤى المختلفة، وبالتالي خلق متعة معرفيَّة لمشهدٍ كان فيه ضمن أزمة جعلته خارج اللعبة في زمنه وداخل اللعبة في زمن هو لجيل جديد.
فهل هذا ما حدث مع الكتاب العظماء والقدماء؟ أم أنهم في أزماتهم واجهوا الصعوبات المجتمعيَّة بالكتابة عنها. لتبقى ضمن المشهد الذي يبنيه الكاتب، ليستنطق الزمن الذي ابتعد عنه حاضراً وتفاعل معه مستقبلاً؟ وهل أحداث الوطن العربي جعلت الكاتب يصل الى نقطة الصفر أدبياً؟ وهل العزلة هي الملهم الأقوى للكاتب ليدخل اللعبة الاجتماعيَّة والسياسيَّة من خلال الأدب؟