دور الإعلام في النبوءات .. المنجّم الذي أقلق هتلر

بانوراما 2021/08/24
...

 آني جاكوبسن
 ترجمة وإعداد: أنيس الصفار                                      
     في صيف 1941 ذاع صيت منجم بريطاني اسمه لويس ديوول، والتمع نجم هذا العراف بين اوساط الأميركيين بشكل خاص واكتسب شعبية كبيرة بفضل تنبؤاته الدقيقة التي كان ينشرها على عموده الفلكي تحت عنوان «النجوم تتنبأ»، مع تعاظم اعداد قراء «ديوول» بسرعة نيزكية كانت هناك احداث اخرى تجري على الأرض، ففي آب 1941 رفعت هيئة الاتصالات الفيدرالية حظراً كان مفروضاً على المنجمين والفلكيين منذ أمد طويل، ثم سرعان ما بثت على الهواء مقابلة حصرية مع هذا الرجل الذي لقب «نوستراداموس عصره»، بعدها بأسابيع قليلة، ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، صوِّر فيلم عنه وعرض ضمن النشرة الاخبارية، اذ بثت «باثي نيوز» عرضاً معمقاً ومؤثراً لنبوءاته وتركت لجمهور الأمة البالغ 29 مليوناً أن يكون الشاهد والحكم، كل هذا كان في حقيقته مجرد واجهة، وكانت الأخبار التي نشرت عبره زائفة!.                          
 
عمود لويس ديوول المشار إليه لم يكن في واقعه سوى أسلوب ذكي مدروس وجزء من حملة اعلامية خفية لاستمالة الرأي العام الأميركي لصالح بريطانيا وتهيئة أذهان الأميركيين لفكرة دخول بلدهم الحرب لاحقاً، كان ديوول في حقيقته يعمل تحت توجيهات جهاز المخابرات البريطاني «أم آي 5» والضابط المشرف عليه هو الجاسوس الاسطورة «وليام ستيفنسون»، أما المواطن الأميركي العادي فلم يكن يعلم عن ذلك كله شيئاً. 
كانت الحرب مشتعلة في أوروبا كلها، وفي أعمدة ديوول التنبؤية التي صارت تنشر في عدد من الصحف ووسائل الإعلام، وكان التركيز ينصب دائماً على الخطر النازي. في حزيران 1941 بدا وكأن احدى أكثر النبوءات دقّة وتفصيلاً قد تحققت، فقد قالت النبوءة أن احد كبار المتعاونين مع هتلر، وهو ليس ألمانياً ولا نازياً، سوف يصاب بجنون من النوع العنيف، وسوف يكون ذلك في إحدى مناطق أميركا الجنوبية او الوسطى، وربما غير بعيد عن البحر الكاريبي»، بعد ذلك بثلاثة أيام أوردت برقيات الاخبار الأميركية أن المفوض السامي الفرنسي لغرب الأنديز، الأدميرال «جورجس روبرت»، قد فقد عقله بحيث أضطر طاقم مساعديه الى الحجر عليه بالقوة. في أعقاب هذا ذكر تقرير لصحيفة «نيويورك بوست» ان رؤساء الصحف في طول أميركا وعرضها صاروا يحاصرون ديوول طلباً لمقالات حصرية، فذلك المتنبئ امتلك مقدرة غامضة على معرفة ما لا يمكن لأحد معرفته، وكان ملايين الأميركيين يطلبون المزيد.
 
من وراء الواجهة؟
في السر كان هناك اساتذة دهاة يديرون العملية، ففي البداية تقوم وكالة التجسس البريطانية «أم آي 5» بإيصال المعلومة المراد نشرها الى لويس ديوول ليضعها في عموده الصحفي، بعد ذلك تتولى الوكالة إيصال تلك المعلومة الزائفة الى الصحافة الأميركية، ولأن هذه الصحافة لم تكن لديها وسائل للتواصل مع الرايخ الثالث كي تتحقق من صحة الخبر وتفاصيله كانت تكتفي بأن تورده ضمن تقاريرها باعتباره حقيقة، رغم انه لم يكن كذلك، فالمفوض السامي الفرنسي لغرب الأنديز مثلاً لم يصب بالجنون ولا فقد عقله. 
كان الشخص المسؤول عن توجيه لويس ديوول وإدارته يعمل بشكل مباشر مع العقيد «وليام دونوفان» كبير جواسيس الولايات المتحدة من اجل تنسيق ومتابعة جهود جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، كل ذلك كان من قبل ظهور ما يسمى «مكتب الخدمات الستراتيجية» وهو النواة التي انبثقت منها وكالة المخابرات المركزية «سي آي أي» فيما بعد، كان الهدف من حملة الدعاية الخفية تلك بسيطاً: فقد كان عملاء المخابرات البريطانية يعتقدون أن انكلترا تحتاج الى معونة آلة الحرب الأميركية في أوروبا من أجل صد النازيين، ونبوءات ديوول الكاذبة كانت الغاية منها إخراج الرأي العام عن المزاج الانعزالي الذي كان طاغياً في الولايات المتحدة آنذاك، كانت خدعة مؤثرة وقد فعلت فعلها، ففي احدى المذكرات التي رفعت عنها السرية كتب «وليام ستيفنسون» عن ديوول قائلاً: «هناك جمهور يتنامى عدداً ويزداد اقتناعاً بقدراته الخارقة».
 
النازيون ايضاً كان لهم عرافوهم
استغلال انبهار العامة بسحر الخوارق وظواهر ما وراء الطبيعة كان نهجاً مقتبساً من النازيين انفسهم، ففي ألمانيا كان هناك العديد من كبار النازيين المهووسين بالغيبيات وممارسات قراءة الطالع، القائد الألماني «هاينرخ هملر» نفسه أسس أكاديمية نازية كبيرة خصصت احد فروعها لدراسة «علوم الخفايا الغامضة» واجراء البحوث في الظواهر الخارقة للطبيعة والتنجيم وتقنيات كشف الخارطة والتوجيه الروحي، وكان العلماء المتخصصون يوفدون الى شتى انحاء العالم للتنقيب في المواقع التاريخية والاثرية التي لها علاقة بالافكار الروحانية والغيبية، من اسطنبول الى العراق انطلق هؤلاء العلماء، مفتشين عن القارة المفقودة وأساطير مثل الكأس المقدسة ورمح القدر (الذي يقال أن المسيح طعن به وهو على الصليب)، وبناء على أوامر من هملر جاس ضباط الأمن الخاص المناطق التي احتلتها ألمانيا وداهموا المكتبات واستولوا على القطع الأثرية التي يعتقد أن لها علاقة بالسحر.
لم يكن هملر وحده مسحوراً بهذه الشعوذات بل كان هناك ايضاً «والتر شلينبرغ» رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية لألمانيا النازية، الذي اكتشف ما لهذه الأمور من أثر في الدعاية الجماهيرية، قال شلينبرغ  محدثاً المتنبئ الشخصي لهملر: «التنجيم وسيط فعال لبث المفاهيم السياسية»، كذلك كان «رودلف هيس»، وهو الثاني بعد هتلر شخصياً في سلم القيادة، ثم خانه وفر الى انكلترا بناء على نصيحة أحد العرافين. 
لم يحظر هتلر هذه الممارسات إلا بعد خيانة نائبه هيس له، اذ أعلن أن الأخير كان مصاباً بالجنون ثم اتخذ خطوة أسفرت عن اعتقال جماعي لأكثر من 600 من العرافين والمستبصرين وقارئي الطالع وأشباههم، كما صودرت الكرات البلورية وأوراق التاروت والمرايا المسحورة بالاضافة الى مكتبات كاملة من النصوص الروحانية.
هنا دخل لويس ديوول المشهد، فبعد ثلاثة اشهر من رفع هيئة الاتصالات الفدرالية الحظر عنها والسماح له بالظهور على موجات الإذاعة في الولايات المتحدة هاجم اليابانيون قاعدة «بيرل هاربر» ثم اعلنت الولايات المتحدة الحرب على اليابان وأعلن هتلر الحرب على الولايات المتحدة، وبذلك تكون أميركا قد دخلت الحرب العالمية الثانية، عندئذ استدعت المخابرات البريطانية ديوول ودعته للعودة الى انكلترا.
 
نقل الحملة إلى داخل ألمانيا
على مدى السنوات القليلة التالية استغل الحلفاء ديوول كجزء من حملة دعائية سرية قائمة على التنجيم داخل ألمانيا النازية هذه المرة، فبتوجيه من استاذ الحملات الدعائية «سيفتون ديلمر» ألف لويس ديوول خرائط فلكية تتنبأ بموت ادميرالات وجنرالات نازيين، كما نصت على أن هتلر سيتعرض للخيانة من قبل دائرته الداخلية. خرائط النجوم والأبراج الزائفة تلك أدرجت على صفحات نسخ مقلّدة متقنة من مجلة فلكية ألمانية محظورة عنوانها «زينيت» ثم صارت تسرّب خلسة الى داخل ألمانيا، كانت الفكرة من ذلك أن يبدو الأمر وكأن مجلة «زينيت» ما زالت تصدر سرّاً داخل المانيا على يد علماء تنجيم ألمان يعملون في الخفاء تحدياً للحظر النازي، إلا إن المجلة المزيفة ضبطت من قبل أجهزة الغستابو، وفشلت الخطة.
لكن، يا للدهشة ويا للعجب! إذا بنبوءات لويس ديوول تتحقق، فقد تهاوى عدد من الجنرالات النازيين تباعاً، ثم تعرض هتلر للخيانة من دائرته الداخلية، وخسرت ألمانيا الحرب. 
عدا ذلك كانت هناك تبعات اخرى في العالم الواقعي ايضاً، فبعد انتهاء الحرب، وتحت اسم «عملية ألسوس»، عثر اعضاء فريق أميركي خاص تابع للاستخبارات العلمية على نصف مجموعة وثائق «أهنينيرب» والقطع الأثرية العائدة لهملر في حين عثر السوفييت على نصفها الآخر. وعندما بدأت الحرب الباردة بين الجانبين بقي كل طرف يتساءل عما تمكن الطرف الآخر من اكتشافه، وأدى ذلك الى إطلاق سباق تسلح سايكولوجي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كان كل منهما فيه يحاول التفوق على غريمه في ميدان ابحاث الاسرار الروحانية العليا.
 
في عصرنا الراهن
هذه البرامج لا تزال مستمرة الى اليوم في وزارة الدفاع بعد أن أعيد تصنيفها تحت عنوان «التكنولوجيا المتقدمة» وصارت لها تسميات جديدة وتعمل فيها كوادر متخصصة بعلوم البايولوجيا العصبية وتكنولوجيا المعلومات وهندسة الحاسبات، في مكتب الابحاث البحرية يستطلع العلماء ظواهر تتعلق بهاجس التحذير السبقي والحدس بالبداهة، يقول الدكتور «بيتر سكواير»: «يجب أن نفهم مسببات ما يعرف بالحاسة السادسة، وإذا ما فهم العلماء كيف تجري العملية فقد يتوصلون الى طرق لتعجيلها وربما حتى إشاعة هذه القدرة بين الوحدات العسكرية».