في سعيه لطرح مفاهيم جديدة على رؤى المكان والفضاء، قدّم الناقد ياسين النصيّر مفهوماً جديداً في النقد العربي من خلال بحثه في مفهوم (المسافة) وعلاقتها اجتماعياً وأدبياً، النصيّر حاول في المحاضرة التي ألقاها في قصر الثقافة والفنون في مدينة البصرة، البحث في حفريات اجتماعية وأدبية من خلال المسافة ومفاهيمها ودورها في بنية المجتمع والأدب معاً، وهو بهذا يفتتح رؤيا جديدة يمكن أن تقترح علامات فارقة في مفاهيم المكان والفضاء.
جاءت المحاضرة التي ألقاها النصيّر بعد سلسلة من البحوث التي طرحها عالمان: إنكليزي وفرنسي، كل منهما طرح مفاهيمه الخاصة عن المسافة، وهذا ما أشار إليه الدكتور لؤي حمزة عباس في تقديمه للمحاضرة، مبيناً أن مفاهيم المكان وانشغالاته تطوّرت على يدي ياسين النصير عربياً، فنبعت منه مصطلحات واتجاهات ومعطيات المكان والفضاء والحيّز، ثم انشغل بتطوير المصطلح وبتمثيله نقدياً، التمثيل الذي عمل طويلاً من أجل إيجاد أبعاد معرفية مضافة لهذا التحقق، فكتب في مجال الشحنات المكانية موسّعاً من دائرة اشتغاله افقياً وعمودياً، كنائياً واستعارياً في الوقت نفسه، يتعامل مع مصطلح جديد في تبيئته ضمن حقل الثقافة المرئية ليعد أحد أبوابهاً ومجالاً فاعلاً من مجالاتها، هو المسافة في جدليتها وتشكلها وتحققها ضمن المعرفة النقدية.
وفي مفتتح محاضرته التي أخذت أبعاداً كثيرة، أشار الناقد ياسين النصيّر إلى أن الحديث عن المسافة، حديث عن شيء ملتبس لم يكن واضحاً في نقدنا وثقافتنا، وحتى في مصطلحاتنا النقدية، فلم يفرز كتاب ولا جهد نقدي يخص المسافة، لكنها من أهم الأبعاد التي تعيّن الأبعاد الأخرى، فلا يمكن الكلام عن الحيز أو الموقع أو الموضع أو الفضاء أو المجال دون حساب المسافة بينهما. العالم الانثروبولوجي إدوارد هال قام سعيه الفكري والبحثي على مجتمع الحيوانات، فاكتشف مع فريق عمله، حقلاً لم يطرق بابه من قبل، طبقه في مزرعة يعيش فيها 42 زوجاً من الأرانب.. كل زوج يحيى في مسافة
في البعد الانثروبولوجي للمسافة، وهو تطبيق النصيّر على هذه الثيمة الجديدة، أشار إلى أنه في تكوين البيت أو المأوى أو العش، كانت العودة لبنية الكهوف والمغارات، وكأنما هذا القبو الأرضي وجد بإرادة إلهية، ولكن إرادة الإنسان في عصور أخرى قررت الخروج من الكهف إلى السطح، هذا الخروج جوبه من قبل الآلهة والطبيعة بكل الشرور، أولاً ووجه بنور الشمس، من الكهف المظلم إلى النور المكشوف، وجوبه بالبراكين والعواصف والرياح والغبار، كان الإنسان يعتبر هذه قوى سماوية تهاجم بيته بسبب خروجه من هذا الرحم.. وهذا تماماً ما ينطبق على النص الأدبي وكيفية قياس المسافة بين كل بنية من بنياته، خصوصاً في العلاقات بين أبطال العمل من جهة، وبين العلاقات اللغوية من جهة أخرى.
وبيّن النصيّر أن المكان أكثر فاعلية وجدلية من المسافة، فالنص الأدبي نص مكاني وفضائي، اللغة أحجاز لبناء بيت عليك أن تنظمه، وأن تصنع علاقات بين الكلمات والشخصيات والأفكار وكل مكونات النص الأدبي، فعندما تصنع المسافة في النص الأدبي، ستتمثل بالفارزة أو النقطة أو الفراغ، بمعنى أن هناك دوراً فاعلاً للمسافة في علاقات النص الأدبي.