جواد علي كسار
أخيراً رحل عنّا المفكر المكاوي عبد الحميد أبو سليمان (ولد بمكة المكرمة سنة: 1936م) صاحب الكتاب المعروف: «أزمة العقل المسلم».
نعرف من خلال الثقافة العامة مشاريع كثيرة في نقد العقل ومراجعة أوليات عمله، منها ثلاثية عمانوئيل كانت (1724ـ 1804م) عن نقد العقل المحض والعملي والحاكمة، وكذلك رباعية محمد عابد الجابري (ت: 2010م) عن نقد العقل العربي، إضافة إلى بعض أعمال محمد آركون المتوفى عام 2010م.
نقد العقل ببساطة هو ممارسة تتجه مباشرة إلى نقد الجهاز الذي نستعمله لإنتاج الفكر، مع ما يعنيه ذلك من مراجعة أوليات هذا الجهاز، ووسائل عمله من حيث الصورة والشكل وصيغ الاستدلال، وأحياناً من حيث المادّة التي يشتغل عليها ويُنتجها. وهنا تكمن أهمية هذه
المشاريع.
كان الغالب على ظنّ الكثيرين أن أنصار الخيار الإسلامي، هم بمنأى عن مثل هذا النقد، معتصمون داخل قناعاتهم، مكتفون بما لديهم، مُسلّمون بصحة منطلقاتهم قد وضعوا جهازهم الإنتاجي صورةً ومادّةً، بمعزل عن أي مراجعة ونقد وتقويم.
بيدَ أنَّ الأمر لم يكن كذلك، وأحد أهمّ وأبرز الأدلة هو كتاب أبو سليمان، بل المشروع الفكري الذي كان أحد مؤسّسيه ومن أركانه، مع المفكر العراقي طه جابر العلواني (ت: 2016م) والفلسطيني إسماعيل الفاروقي (ت: 1986م)، متمثلاً بمعهد الفكر الإسلامي ومنشوراته ومنها مجلته «إسلامية المعرفة» ومشروعه؛ مشروع الجامعة الإسلامية في
ماليزيا.
لقد أراد البعض أنْ يخفّف الإيقاع النقدي عندما أعطى لمهمته النقدية وصف إعادة التشكيل، كما فعل المفكر العراقي عماد الدين خليل (ولد: 1941م) خلافاً لأبي سليمان الذي أراد لمحاولته أنْ تتوغّل عمقاً وتضع العقل المسلم بصراحة وجرأة، في مركز دائرة النقد والمراجعة، وهذا ما جعلني دائب العودة إلى الكتاب، منذ أنْ صدر للمرّة الأولى قبل ثلاثة عقود وحتى الآن.
لم يستسلم أبو سليمان للمشهورات والموروثات المتدثّرة بإيهاب المقدّس، بل عاد إلى السياق التقليدي لمتراكمات العقل المسلم، واضعاً ما وصلنا في الأصول والفروع تحت طائلة المراجعة والنقد، غير آبه بهالة الأسماء والمناهج، ما أعطى مراجعته أهمية استثنائيَّة.
في عودتي الجديدة إلى الكتاب تأكدت لي مرّة أخرى الملاحظة القديمة؛ من أنَّ عبد الحميد أبو سليمان، أراد لروحه وعقله وضميره أنْ تندمج مع مادّة الكتاب، وهو يُذكّرنا بمواصفات كتابات متميّزة على مرّ العقود، كما هي الحال مثلاً مع «تجديد الفكر الديني» لمحمد إقبال، و«الأيام» لطه حسين، و«معالم في الطريق» لسيد قطب، و«شروط النهضة» لمالك بن نبي، و«اقتصادنا» لمحمد باقر الصدر، مع ما بين هذه الأسماء من اختلاف في المنطلقات والمناهج والمادّة.