تونس تغيّر بوصلتها الداخليَّة

بانوراما 2021/08/28
...

  فيفيان يي
  ترجمة: خالد قاسم
 
يخوض المجتمع التونسي جدلا متواصلا منذ سنوات. فبعد صعود حركة {النهضة} الإسلامية إلى الحكم دخلت البلاد في غمار صراع اتجاهات فكرية بين محافظة مؤيدة لخط تلك الحركة وبين آخر ليبرالي يسعى للحفاظ على على المكتسبات المدنية للعهود السابقة، ويعمل على التصدّي لما بات يطلق عليه {أخونة البلاد} ومحاولة تغيير نمطها المجتمعي. ما دفع حركة النهضة للإعلان في أكثر من مناسبة عن قيامها بمراجعات لسياساتها وكذلك التعبير عن احترامها لمدنيّة الدولة. لكن يبدو أن الوقت قد فات على عمل مزيد من التراجعات مع صعود أزمة نقص اللقاحات الخاصة بفايروس كوفيد- 19 الى درجة خروج تظاهرات تطالب بوقف التدهور الصحي للبلاد نتيجة العجز عن توفير اللقاحات، بسبب تفاقم الأزمات الاقتصادية، وقلة السيولة المخصصة للقطاع الصحي. ومع تراكم احباطات حزبية وبرلمانية وعدم معالجة الحكومة لها، تدخل الرئيس التونسي قيس بن سعيد ليلتقط كرة النزاع ويذهب بها نحو قرارات سريعة لتجميد عمل الحكومة والبرلمان وتغييرات أمنية ووزارية وعسكرية استهدفت حركة النهضة لتضعها خارج كرسي السلطة.
إلتقط الرئيس بن سعيد عبارة للرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول لدى استقباله صحفيين من أميركان، بقوله {لماذا تعتقدون أنني سأبدأ حكما دكتاتوريا وأنا بسن، 67،}؟ وتعهد بن سعيد بعدم انهاء الحريات التي صارع التونسيون لإكتسابها، باعتبارها الديمقراطية الوحيدة البارزة من الربيع العربي. وأضاف سعيد، البالغ من العمر 63 سنة، {لذلك لا داعي للخوف على فقدان حرية التعبير، ولا خوف على حق الناس بالتظاهر.} باستثناء منعه التجمعات العلنية التي تزيد عن ثلاثة أشخاص، وأغلقت القوات الأمنية مكاتب قناة الجزيرة.
عموما لا توجد رغبة كبيرة بالتظاهر في الشارع التونسي، ويكاد الإحساس بالفزع مفقودا على مصير الديمقراطية التونسية. وعادت الحياة الى طبيعتها في العاصمة. فالمتبضعون في الشوارع والباحثون عن دفء الشمس على الشاطئ، وتستمع قلة من الناس لنشرات الأخبار. يبدو الناس قانعين بالانتظار ورؤية ما الذي سيفعله الرجل لإصلاح البلاد. ويتساءل المرء إذا كانت الديمقراطية على الطريقة الغربية هي المنشودة في تونس بالمقام الأول أم مجرد العيش بكرامة ومزيد من الحريات.
كان من المفترض أن تصبح تونس آخر أمل كبير للربيع العربي، وتسببت حقيقة أن تجربتها عاشت بينما فشلت التجارب الأخرى سواء عبر انقلابات أو حروب أهلية بإعطاء إلهام لسكان المنطقة والكثيرين في الغرب.
لكن عشر سنوات من البطالة الواسعة وزيادة الفقر والفساد المستشري والجمود السياسي، والوباء حاليا، قضت على الثقة بالحكومة وشجعت الجماهير على التظاهر مطالبين بالتغيير مما شجع الرئيس على القيام بهذا التحرك.
 
قانوني صارم
كان من المتوقع أن يجري صحفيو نيويورك تايمز مقابلة مع الرئيس التونسي، لكن اللقاء تحول الى ندوة. قيس سعيد أستاذ قانون سابق وكان صوته مدويا جدا وخطابته لا تشوبها شائبة الى درجة أن الصحفيين تصوروه بقاعة المحاضرات. 
اعتقد الصحفيون الأجانب عند وصولهم تونس مشاهدة تظاهرات واسعة النطاق، لكنهم وجدوا أن تنظيم الاحتجاجات أمر صعب، لأن الجنود أغلقوا مبنى البرلمان ومنع مرسوم رئاسي تجمعات الأشخاص، لكن هناك قلة تميل للتظاهر بسبب تأييد الكثيرين لإجراءات الرئيس.
جاء سعيد للسلطة عبر صندوق الاقتراع عام 2019، وبدا شعبويا غير متوقع خصوصا بين الناخبين الشباب الذين عززوا حملته الانتخابية على فيسبوك. نال سعيد لقب {روبوكوب} بسبب عادته بإلقاء الخطابات بلغة عربية رسمية صارمة، وتحديدا عن القضايا الدستورية ويبدو أكبر سنا من عمره الحقيقي.
لكن سعيد كان من خارج النخبة السياسية المكروهة بين الناس، وعاش في الحي السكني المتواضع نفسه منذ سنوات، ويتناول القهوة من المقهى القديم حاله حال بقية جيرانه، ونال مع ذلك فوزا ساحقا في الانتخابات.
تصعب معرفة نتائج تحركات الرئيس التونسي، إذ جرى اعتقال أحد أعضاء البرلمان من المؤيدين للتحركات الجديدة ومنتقدي الجيش، ومن ثم صدور مرسوم رئاسي يقول إن اجراءات الطوارئ قد تمتد أكثر من شهر كما كان مقررا. لكن سعيد من جهة ثانية استمر بالمشاركة في حوارات المجتمع المدني مع النقابات العمالية وأطراف سياسية مهمة أخرى.
ذكر الرئيس للصحفيين أن الصعوبات التي يواجهونها داخل بلاده غير مقصودة، وتحدث لأن {البعض يريد إظهار الرئاسة بمظهر سيء}. لكنه أكثر عزما عند قوله أن اجراءاته دستورية، وتنسجم كلها مع دستور تونس لعام 2014 والتي تعطي صلاحيات استثنائية للرئاسة في حالات {الخطر الوشيك} على البلاد.
تساءل المنتقدون وخبراء الدستور والمعارضون السياسيون اذا كان الإجراء الجديد قد تجاوز الدستور، لكن بغياب المحكمة الدستورية التي كان من المفترض تأسيسها، فلا يوجد أحد يستطيع الفصل في هذا النزاع.
أعلن الرئيس نفسه مدّعيا عاما، {سيحترم كل الاجراءات القضائية} حسب قوله، لكنه حذر أنه لن يترك أي شخص {ينهب من التونسيين} وهو اعلان هدفه جلب الساسة الفاسدين أمام القضاء، إذ كان الفساد السياسي أحد الأسباب التي ذكرها لتبرير اجراءاته.
 
صحيفة نيويورك تايمز الأميركية