خطورة العمل الصحفي في برلين قبل 100 سنة

بانوراما 2021/08/30
...

 فيليب أولترمان
 ترجمة: خالد قاسم
فريدريك أوغستوس فويغت، مراسل صحيفة مانشستر غارديان في برلين بين عامي 1920 و1932، لم يبدُ مراسلا شجاعا. وتبين صورة له التقطت عام 1935 أنه أراد الابتعاد عن الكاميرا، وظهرت عيناه مرتابتين خلف نظارات سميكة ودائرية الشكل. أما مظهره الجسدي فهناك وصف له في نعي عام 1957 يقول {ضعيف المظهر وعصبي بطبعه، قصير البصر مع ابتسامة كاذبة من الفم نزولا}.
بلغ توتر فويغت درجة أنه كشف سرا لرئيسه في العمل عدم امتلاكه الشجاعة الكافية لعبور الشارع خلال الزحام الشديد، {على غرار مشاعر كراهية كثيرة، فكرهي للسيارات ينبع من الخوف}.
مع ذلك، فإن كلمة شجاع هي الصفة المناسبة الوحيدة لوصف عمل فويغت الصحفي. وكان يعرف باسم {فريدي} لأصدقائه في إنكلترا، و{فريتز} لزملائه في برلين، و{مراسلنا الخاص} بالنسبة لقراء مانشستر غارديان، وعرف بذهابه مباشرة الى القصة الخبرية أينما وجدت حتى اذا كانت تعرض حياته للخطر.
بعد أشهر من وصوله ألمانيا وخلال تغطية انتفاضة عمال مناجم الروهر في مدينة إيسن، تعرض للإختطاف من قبل عناصر عسكرية فاسدة إتهمته بالتجسس، وأوقفوه أمام حائط وأمطروا المنطقة المحيطة برأسه بالرصاص. وتسببت مقالته عن الحادث، حيث ذكر فيها اسم الضابط الذي أساء معاملته ووصف الظروف القذرة لمعتقلين آخرين، بتلقيه اعتذارا رسميا من المستشار الألماني.
أدت مقالته الحصرية عام 1926 عن التعاون السري بين القوات الألمانية والجيش السوفيتي الى انهيار الحكومة. وكان صحفيون آخرون على علم بالاتفاق السري المكشوف بين وكالات الاستخبارات الأوروبية، لكنهم عرفوا أن كشفه يعني إرسالهم الى السجن بتهمة الخيانة في ألمانيا، لذلك قرروا عدم نشره. أما فويغت فقد فعلها ونشر الاتفاق.
 
تأثير التكنولوجيا
الأمر الأكثر أهمية هو نجاح فويغت خلال فترة عمله طيلة عقد العشرينيات المضطرب والمربك من التاريخ الأوروبي في البقاء منتبها لأهم قصة آنذاك، وهي صعود النازية، وسرعان ما أدرك أنها لم تكن قصة يمكن أن يعاملها بطريقة {مع أو ضد}. وبعد قرن من الزمن، ورث مراسل الغارديان الحالي مكان فويغت في برلين، وهما يتقاسمان خلفية امتلاك لغات حديثة والنسب الألماني، فقد انتقل المراسل الحالي الى لندن مراهقا، أما فويغت فولد لأبوين مهاجرين يتاجران بالنبيذ. وتنتهي عند هذا الحد قائمة القواسم المشتركة بينهما.
غيرت التكنولوجيا امكانيات ومتطلبات العمل الصحفي بشكل يصعب التعرف عليه. اذ كان يجب على فريدي فويغت أن يبرق يوميا نسخته عند السادسة مساء، وأي شيء يرسله بعد ذلك سيفوت الطبعة الأولى، مما يضع مراسل مانشستر غارديان بموقف عدم أفضلية أمام مراسلي صحف لندن الذين يقدمون أخبارهم حتى التاسعة مساء. وكان تحدي جمع المعلومات أسهل من إرسالها الى المنضدين في مانشستر.
حاليا، يكتب المراسلون مقالاتهم ويرسلونها للنشر من أي مكان في العالم، سواء كانوا وسط مؤتمر صحفي أو داخل مقهى أو على متن قطار. ويقومون بذلك في أوقات كثيرة، أحيانا بعد منتصف الليل وخلال عطلة نهاية الأسبوع. وإتسع أيضا نطاق المواضيع التي يغطيها الصحفيون، فكاتب المقالة يكتب عن الحياة الاجتماعية والثقافية بقدر ما يحدث داخل البوندستاغ، ولذلك ينتقل كثيرا بين القصص الخبرية والمقالات الخاصة والمقابلات والأعمدة الشخصية. أما فويغت فقد كان يمتلك صوتا لا يخطئ، ودمج الاهتمام بالتفاصيل مع الإقناع الشديد والتعلم العميق للفلسفة وعلم اللاهوت، لكنه كان مراسلا سياسيا في المقام الأول. رغم سكنه في برلين بجوار حانة مشهورة بالصخب والحياة الفنية، لكن الحياة الليلية للعاصمة الألمانية لم تكن موضوع تقاريره على الإطلاق.
أهم تغيير شهدته البلاد ونكتب عنه هنا هو ترنح ألمانيا خلال العشرينيات من هزيمة مذلة في الحرب، فحدودها متنازع عليها واقتصادها غير مستقر وتقاليدها الديمقراطية هشة والعنف مرتفع في الشوارع. 
 
الصحافة الموضوعية
أما ألمانيا الحالية فلديها سياسيون ليبراليون في أعلى مناصب السلطة، ومجتمع شديد الوعي لمخاطر الغوغائية اليمينية، ومؤسسات قوية صممت للدفاع عن تقاليدها الديمقراطية. ولم تشهد عنفا خلال السنوات الخمس الأخيرة، ما عدا الهجوم الارهابي ليلة رأس سنة 2016 وأعمال شغب أثناء قمة العشرين في هامبورغ 2017.
لا يزال هناك أشخاص يشتاقون لألمانيا القديمة غير الليبرالية، ويحلم بعض الأفراد بطرق تعيدها الى تلك الحقبة، ولمحات عن عنف الشوارع ممن يعملون بهذه التخيلات. لكن تخصيص موارد صحفية بشكل حصري لتلك الأقليات المتطرفة يعني رسم صورة مشوهة وخيانة قوى المدنية التي قاتل فويغت لتسليط الضوء عليها حتى في أحلك فترات ألمانيا.
إحدى أهم الجوانب إثارة للاهتمام بمراسلات فويغت هي نوع من أنواع الاعتراف، فتحديات الكتابة عن ألمانيا هتلر، كما أخبر رئيس تحرير الصحيفة في لندن، هي أن الوضع السياسي كان غير طبيعي تماما، وقال: {أخشى أن تبدو كتاباتي نوعا من الإثارة}. ونتيجة لذلك، تحدث عن تقرير قدمه عام 1932 {وصفت هتلر بأقصى حد ممكن من الاعتدال في مقالتي، لأنني ببساطة أردت تجنب إثارة الشكوك}.
بعد مئة سنة تبقى موازنة الحقائق على الأرض مع الأفكار المسبقة في أذهان القراء هي نفسها. ولم يعد القراء في بريطانيا فحسب، بل حول العالم بأسره، ما يزيد الأمور تعقيدا. لكن تحدي الترجمة الثقافية مختلف، فالساسة الألمان يكرهون النمط الهستيري الذي ساد خلال العشرينيات.
تميز فويغت بذكر الحقائق التي رفض مراسلون آخرون رؤيتها، فرجل مانشستر غارديان في برلين كتب للمرة الأولى عن {ازعاج اليهود} عام 1921 وحذر من تهديد الدكتاتورية الاشتراكية الوطنية في خريف 1930. واستمر بالكتابة بلا تردد عما أسماه {الإرهاب البني} لهتلر بينما ركزت الصحف البريطانية الأخرى مقالاتها بالتوافق مع سياسة الاسترضاء لحكومتها. وحذر فويغت رئيس تحرير صحيفته عام 1933 من أن صعود النازية {أكبر حدث تاريخي منذ الحرب الكبرى}.
كتب فويغت آنذاك عن التطورات الألمانية من باريس عبر مراسلات مع شبكة معارفه الواسعة، وصار أول مراسل دولي ينفى من الرايخ الثالث. وبحلول ليلة رأس سنة 1933 أبلغه مسؤولون فرنسيون بقرب وقوع هجوم على مكتبه للاستيلاء على مقالاته وملاحظاته، كما اعتقد هو أول الأمر، لكنه علم لاحقا أن نية الغستابو كانت اغتياله. 
كيف يمكن لرجل يخاف بسهولة أن يكتب بهذه الشجاعة؟ تعلّم فويغت خلال عمله في الجبهة الغربية أن الخوف هو رد فعل جسدي طبيعي كالشعور بالبرد خلال الشتاء، ويستطيع المرء إيقاف خوفه مؤقتا عبر التمارين الفكرية المكثفة.  
 
صحيفة الغارديان البريطانية.