كيف كشف الحجر الرشيد أسرار الحضارات القديمة

بانوراما 2021/08/30
...

 ايرين بلاكمور
   ترجمة: شيماء ميران
لم يكن جنود الضابط الفرنسي بيير فرانسوا بوشار بمهمة للتنقيب حين عثروا على لوح حجري قديم في تموز من العام 1799 والذي كان يمكن أن يغير العالم حينها، بل كانوا ينفذون مهمة بناء، فبعد أن احتل الجنود الفرنسيون حصناً متهدماً بمنطقة رشيد في مصر، لم يكن امامهم سوى ايام لتعزيز دفاعاتهم تأهبا للمعركة مع القوات العثمانية.
 
وبينما كان الجنود يقومون بهدم سور تم بناؤه من مخلفات المواقع المصرية القديمة القريبة، عثروا على جزء من لوح كبير محفور عليه بثلاثة انواع من الخطوط احدها باللغة اليونانية القديمة، ما اثار تساؤل بوشار ان كانت الكتابة على الحجر بثلاث لغات، واخبر بوشار الباحثين الفرنسيين، الذين قدموا لمصر بحثا عن كنوزها الاثرية، عن هذا الحجر.
لكنهم حصلوا على اكثر مما يتمنون، فكان اللوح هو الحجر الرشيد ذو السطح الغامض المنقوش بعناية بأحرف ورموز، والذي من شأنه أن يسلط الضوء على مجد الحضارة المصرية القديمة، لكن اولا كان على الباحثين أن يفكوا شيفرته.
 
درجة الأمانة
وبالوقوف على حجر بارتفاع متر ونصف وعرض 75 سنتمترا تقريبا، فان الحجر الذي يشبه الغرانيت ما هو إلا جزء اكبر من لوح مفقود اليوم، ورغم ان النص المحفور عليه غير مكتمل إلا انه قطعة قيّمة،اذ يحتوي على مرسوم العبادة الملكية المؤكدة للملك المصري بطليموس الخامس الذي استلم الحكم عام 204 قبل الميلاد.
فقد كانت المملكة البطلمية حينها في حالة حرب وتواجه ثورة في الداخل، فقام مجلس الكهنة بتمرير المرسوم الذي استخدموه لتكريم الفرعون وإعلان الولاء له، وكان مسجلا على النصب بالخط الهيروغليفيالبطلمي، والخط الديموطيقي المصري واللغة اليونانية القديمة، وكانت هذه المسلات المتطابقة توضع في كل معبد بمصر.
وبالمضي سريعا إلى العام 1789، عندما قاد نابليون القوات الفرنسية لاحتلال مصر، التي كانت حينها جزءا من الامبراطورية العثمانية، كان العلماء والمؤرخون جزءا من القوات المنتصرة، الذين سرعان ما انتشروا في البلاد لتوثيق ما يجدونه هناك، وكان حجر الرشيد من بين مجموعة كبيرة من القطع الاثرية التي جمعها علماء الآثار المصرية التي ارادوا نقلها لفرنسا.
لكن الانكليز طمعوا في مصر ايضا، حتى انتصروا على القوات الفرنسية في 
العام،801. 
وسمحوا للفرنسيين بالانسحاب لكن بعد أن يسلّموا مجموعة القطع الاثرية، لذلك في العام 1802، شق حجر الرشيد طريقه إلى لندن، حيث تم عرضه في المتحف الانكليزي فور وصوله هناك.
 
هناك شيفرة
كان للحجر اهمية اكثر من قيمته الجمالية، ما جعل الباحثين يمعنون النظر طويلا بمعاني الرسوم التصويرية التي تعرف باسم الهيروغليفية والمنقوشة على الالواح المصرية القديمة. 
ولانها تضم نصا متطابقا مع ثلاث لغات، اعتقد العلماء ان الحجر الرشيد قد يتمكن من حل اللغز التاريخي. 
تسابق العلماء في تفسير وترجمة نقوش الحجر الرشيد، وشاركت مجموعة متنوعة من العلماء من جميع انحاء اوروبا في ذلك، وكانت المشاركتان الاهم من انكلترا 
وفرنسا.
تعامل العلامة البريطاني توماس يانغ المعروف بمشاركاته العلمية مع اللغز على انه مسألة رياضية، فبعد ترجمته اليونانية القديمة، سجل ملاحظات شاملة عن الهيروغليفية وحاول بشكل ممنهج مقارنة كل واحد منها مع ترجمته، كما قارن الرموز مع تلك المنقوشة على التماثيل الاخرى، حتى تمكن من تحديد الاصوات التي تمثل بعض الرموز، واكتشف بعض الحروف وجمعها بالكيفية التي كانت تُشكل بها 
الكلمات.
لكن الفرنسي جون فرانسوا شامبليون، الذي اشتهر بتأسيسه لعلم المصريات، تمكن في النهاية من كسر الشيفرة في العام 1822، وبينما يانغ لم يكن متمكنا من اللغة المصرية، فإن شامبليون كان يجيد القبطية وله معرفة واسعة بشأن مصر. 
واكتشف ان النص الديموطيقي الموجود على القطعة الاثرية ينقل مقاطع والحروف الهيروغليفية تمثل الاصوات القبطية. وكان ذلك بمثابة تقدم، هرع شامبليون على اثره إلى مكتب اخيه وهو يصرخ: {لقد فعلتها}، ثم اُغمي عليه ولم يستعد وعيه إلا بعد خمسة ايام.
 
أسطورة الحجر
لقد استخدم شامبليون الحجر لوضع ابجدية اصوات الاحرف الهيروغليفية، وأكمل علماء آخرون دراسته من اجل ترجمة الحجر بالكامل، اما بحث عالم المصريات الفرنسي فقد تم التحقق من صحته اخيرا بعد اكتشاف وترجمة مرسوم كانوب المكتوب بالهيروغليفية والخط الديموطيقي واللغة اليونانية القديمة.
لقد اصبح الحجر الرشيد بمثابة الاساس لعلم الآثار المصرية، والفضل بذلك يعود إلى الشاهد الذي اصبح اهم القطع الاثرية في التاريخ، لكن الحجر ذاته مثير للجدل كونه غنيمة حرب وتوسع استعماري، فهل تم نقل الحجر الرشيد إلى انكلترا ام سرقه الانكليز؟، وهذا يعتمد على من توجه اليه السؤال، ومع استمرار المناشدات على مدى سنوات من اجل إعادة الحجر إلى مصر، لكنه لا يزال في المتحف البريطاني، حيث يزوره اكثر من ستة ملايين زائر سنويا.
اذن لماذا يحتفظ حجر رشيد ذو المظهر البسيط بهذا البريق حتى اليوم، رغم مرور قرنين على فك شيفرته؟. هذا ما اجاب عليه جون راي عالم المصريات في حديثه مع بيث بي ليبرمان من مجلة سميثسونيان في العام 2007: {ان الحجر هو بالفعل مفتاح، ليس فقط لمصر القديمة، بل لفك شيفرته ذاتها. نحن نعلم بان هناك حضارات عظيمة مثل مصر، لكنها صامتة. 
وبحل شيفرة الحجر الرشيد يمكن أن ينطقوا باصواتهم، وفجأة تم الكشف عن مساحات كاملة من التاريخ}.