جاذبيّة نهاية العالم.. الجذور الفلسفيَّة لافتتاننا بالكوارث

منصة 2021/09/01
...

 ستيفن دي ويزي
 ترجمة: جمال جمعة
تسحرنا سيناريوهات ما بعد نهاية العالم، حيث يتم إلقاء الأبطال في عالَم هوبزيانيّ* مفعمٍ بالوحشية والخيانة. هذه القصص تذكرنا بالطبيعة المحفوفة بالمخاطر للوجود البشري، والتي اتضحت أكثر بفعل جائحة الفيروس التاجي، وتوفر لنا فرصة لاختبار فضيلتنا الأخلاقية.
 
يتم إطلاق أحد الفيروسات من مختبر تجريبي في كامبريدج، ما يتسبب في غضب مميت لا يمكن السيطرة عليه في ضحاياه. عندما يصيب شعب بريطانيا، فإنهم يتحولون إلى ما يشبه دولة الزومبي، ما يؤدي إلى مذابح جماعية وانهيار المجتمع في نهاية المطاف. في وسط هذا كله، يفيق رجل يدعى جيم من غيبوبة ليجد لندن مهجورة وغير مأهولة في الغالب بعد 28 يومًا على وقوع الأحداث الكارثية لأول مرة.
 
سيناريو ما بعد الكارثة
إذا كان هذا السيناريو يبدو مألوفًا، فذلك لأنه حبكة فيلم (28 يوماً لاحقاً) للمخرج الشهير داني بويل، الذي يستكشف سيناريو ما بعد الكارثة التي تسبب بها فيروس قاتل. هذا الفيلم، مثله مثل العديد من الأفلام الأخرى من فنون موضوعة الكارثة، لم يحقق نجاحًا كبيرًا في مبيعات شباك التذاكر فحسب، بل نال كذلك العديد من الجوائز، وأدى إلى ظهور تكملة له (28 أسبوعًا لاحقاً)، ورواية مصورة (28 يومًا لاحقًا: العاقبة)، وينسب إليه الفضل في بدء إحياء أفلام الزومبي. على الرغم من شعبيته، إلا أن ملصق الفيلم لا يترك لك أدنى شك في أن مشاهدة هذا الفيلم ستكون مرعبة وينبغي أن تزعجك. ومع ذلك، فإنه خلال هذه العملية، سيسلّيك أيضاً ويثير إعجابك.
عند وقت كتابة هذا المقال، كنا نواجه وباءً عالميًا بسبب الفيروس التاجي والحياة اليومية العادية أضحت مستحيلة. نحن نواجه أحداثًا مؤلمة مثل المرض شخصياً، واحتمال وفاة الأحباء، وزيادة الأمراض العقلية بسبب القلق والعزلة الاجتماعية على مدى فترة طويلة، وفقدان الوظائف بشكل كارثي بسبب إغلاق الأنشطة الاجتماعية العادية. لدى الكثيرين مخاوف عميقة بشأن التأثيرات الاقتصادية المستقبلية لهذا الفيروس مع كل الآثار السياسية والاجتماعية والسيكولوجية الضارة التي لا يمكن تجنبها. ليس من المستغرب أن يرغب معظمنا في إنهاء هذه الأزمة المتصاعدة وهذا الكابوس بأسرع ما يمكن. فالعيش في خضم هذه الأزمة ليس مسليًا ولا مشوّقاً.
الحالات الكارثية أو الأبوكاليبسيّة كانت موضوعًا للأفلام، والمسرحيات، وقصص الكوميكس، والروايات لعقود. لطالما كانت القصص والأفلام التي تصوّر كوارث من صنع الإنسان أو الطبيعة، إضافة إلى سيناريوهات ما بعد نهاية العالم، موضوعًا لبعض أشهر أشكال وسائل الترفيه. فكّر، على سبيل المثال، في سلسلة أفلام الكوارث الأيقونية التي أُنتجت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، {المطار، {مغامرة بوسيدون}، }الجحيم الشاهق{، و{الزلزال}. بالنظر إلى حقيقة أن مثل هذه السيناريوهات ستكون بدون شك رهيبة وصادمة، فلماذا إذن يوجد افتتان واسع النطاق بتصوير مثل هذه المواقف المعتمة والمروّعة؟
أولاً، من الواضح أن الأحداث والقصص والوقائع سواء كانت شريرة أو خطيرة أو مخيفة، تستحوذ على انتباهنا بشكل أسرع بكثير من تلك التي تكون جيدة وآمنة ومهدئة. الأخبار السيئة دائمًا ما تنتقل بسرعة، وحين تشاهد أو تقرأ أية نشرة أخبار ستلاحظ على الفور أنها تتألّف بأكملها تقريبًا من أخبار سيئة أو مقلقة. ثمة سبب تطوّري جيد لهذا. نحن نولي اهتماماً أوثق وأكثر حماساً لتلك الظواهر التي يمكن أن تضرّ بنا، لأن شاغلنا الأساسي هو البقاء في أمان ومحميين بشكل جيد من هذه الأخطار. يذهب هذا الدافع إلى حد ما في تعليل افتتاننا بالشرّ الأخلاقي، وكيف أن أسوأ أنواع الأفعال والأشخاص أخلاقياً قد تؤثر بشكل ضارّ على رفاهيتنا.
 
حالة الطبيعة الهوبزيانية
ومع ذلك، فإن هذا الاهتمام برفاهيتنا ليس هو السبب الوحيد الذي يجعلنا مفتونين بسيناريوهات الكوارث ومستمتعين بها. يركّز هذا النوع من الترفيه بشكل عام على تجارب فرد أو مجموعة من الأشخاص الذين يواجهون الآثار الرهيبة للكارثة أو سيناريوهات ما بعد نهاية العالم حيث الوحشية، والخوف، والجوع؛ إنها “حالة الطبيعة” الهوبزيانية، حيث من المؤكد أن الحياة ستكون “منعزلة، فقيرة، مقرفة، بهيمية، وقصيرة”. هذه القصص تدور جوهرياً كما قلنا حول كيفية مواجهة الفرد أو مجموعة من الأشخاص لمثل هذه التحديات الهائلة. إنها سرديات عن البقاء على قيد الحياة والقدرة على التحمل، حيث نجد الأبطال (والجبناء) مجبرين على خيارات وتضحيات رهيبة يتوجب عليهم القيام بها من أجل البقاء أحياء. نحن مفتونون بالطريقة التي ينتصر فيها الأفراد في الرهانات الرهيبة ويتكبدون مشقّات فظيعة ومع ذلك ينجون من المحنة لبدء حياة جديرة بالاهتمام مرة أخرى. تجدر الإشارة إلى أن أفلام الكوارث التي لا يوجد فيها أبطال، والتي لا ينجو فيها أحد، تفتقر عادة إلى شعبية تلك الأفلام التي تقدم لنا الخلاص والأمل.
 
سر الجاذبية
لكن لماذا تعدُّ قصص الكوارث هذه جذابة للغاية بالنسبة إلينا؟ السبب هو أنها توفر لنا استراحة من المشاكل اليومية الدنيوية والاعتيادية في الحياة الأساسية. الأحداث التي تعقب النكبات الرهيبة تجبر أولئك الذين يتعاملون مع العواقب على انتهاك الحدود الاجتماعية الأليفة والدارجة والمحظورات الأخلاقية. لوائح السلوك المعتادة في كيفية التصرف تجاه الآخرين تصير بالية، بل وحتى عقبة في هذه الأوقات اليائسة. ينبغي على الناس أن يجدوا طرقًا جديدة للتجاوب مع بعض أسوأ المعاضل الأخلاقية وأن يلوّثوا أيديهم بشكل حتميّ وبصورة مأساوية. على سبيل المثال، مَن الذي سينقذه المرء عندما يتطلب هذا الخيار خيانة آخرين؟ هل البقاء على حساب الآخرين طريقة أخلاقية للتصرف؟ كم من قسوة القلب يتوجب على المرء التحلّي بها للحفاظ على من يحبهم في أمان؟ إن التصرف الحسن في مثل هذه الظروف يتطلب شجاعة، ومرونة، وعزيمة، وتضحية بالنفس، وحكمة عملية لا تكون مطلوبة في كثير من الأحيان (إن وجدت) في الأحوال الاعتيادية. لذا، فإن افتتاننا هنا محفَّزٌ في جزء كبير منه بفضول مَرَضيّ ــ كيف سيتصرف الناس في مثل هذه المواقف، وكيف ينبغي عليهم ذلك؟ ماذا كنتُ سأفعل في نفس الموقف أو ما شابه ذلك؟ هل أمتلك الشخصية المطلوبة، والجرأة، والعزيمة على فعل ما هو ضروريّ للبقاء على قيد الحياة في مثل هذه السيناريوهات الرهيبة؟ إلى أي مدى ينبغي أن أُحاسَب على الأفعال الضرورية التي تنتهك المعايير الأخلاقية القيّمة؟
قد يكون ثمة سبب آخر يجعلنا نجد فن الكوارث مثيرًا للاهتمام. مثل هذه القصص توفر لنا الوسائل لتخيّل ما لا يمكن تخيّله، ولكن بطريقة آمنة ومنقحة. نحن مندفعون لفعل هذا لأننا نسعى للتخلص من أسوأ مخاوفنا البدائية. تماماً مثلما أن مشاهدة المسرحيات التراجيدية أو قراءتها تمكِّننا من التطهير، فإن فن الكوارث يساعدنا على التنفيس عن المشاعر المكبوتة عميقاً أو المخاوف غير المعلنة لدينا تجاه أحبائنا وأنفسنا. يمكن لفن الكوارث أن يُشبع فضولنا المَرَضيّ مع توفير مساحة آمنة لاستيعاب مثل هذه الأحداث والتعامل معها. إن مشاهدة فيلم مثل (28 يوماً لاحقاً) الذي يدور عن فيروس قاتل يدمر المجتمع لهُوَ أقلّ إرهاقًا ورعبًا بكثير من كوننا تحت حالة الإغلاق بينما يعيث الفيروس في حياتنا خراباً في واقع الأمر.
الألغاز الأخلاقية
أخيرًا، في حين أنه قد يكون من الحماقة أن نتسلّى بقصص الكوارث، فلسنا نجدها على العموم جذابة أو ممتعة لأننا أناس سيئون أو أشرار. هناك بلا شك بعض الأشخاص الذين هم ببساطة يستمتعون بهذا الصنف من الأفلام بسبب قشعريرة الإثارة المؤكدة التي تصيبهم من تخيّل ما يتكبده أبطال الفيلم. 
لكن هذه ليست هي الاستجابة الوحيدة ولا حتى السائدة من قبل الأشخاص الذين يعيشون حياة مسالمة ومستقرة. هذه السرديات تقدّم أكثر من مجرد إثارة سريعة. إنها تنبهنا إلى الألغاز الأخلاقية التي قد تحدث في مثل هذه المواقف وكيف أنها تهدد نفس المُثُل والقيم التي نعتز بها. اهتمامنا بهذا الصنف من التسلية يوفر نافذة آمنة يمكننا من خلالها تقييم القِيَم والسمات الشخصية التي تهمنا فعلاً، تلك التي تميل إلى أن تكون مفرطة في التبسيط، منسيّة، ومهملة، بل وحتى منتقَصة القدر في الأوقات الطيبة.
إننا نعلم ببعض الإحساس العميق أن الكوارث، الطبيعية منها والبشرية، ليست بعيدة جدًا على الإطلاق. وكما يتضح من الوباء المستمر الذي نواجهه اليوم، فإن الحالة البشرية هي واحدة حيث يمكن، من دون سابق إنذار، أن نغطس في مواقف تقوّض رفاهيتنا وقابليتنا على عيش حياة كريمة ومتحضرة. إن القلق بشأن هذا أمر طبيعي وعقلانيّ على حد سواء، ولذا فمن المستبعد أن يتضاءل اهتمامنا بأفلام الكوارث وأدبها في المستقبل.
* هوبزياني: نسبة إلى توماس هوبز، أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر في إنجلترا وأكثرهم شهرة، خصوصاً في المجال القانوني. كان، بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ، فقيهاً قانونياً ساهم بشكل كبير في بلورة الكثير من الأطروحات التي تميّز بها هذا القرن على المستويين السياسي والحقوقي. يعرض هوبز في كتابه (اللفياثان) مذهبه حول أساس الدول والحكومات الشرعية وخلق علم موضوعي للأخلاق، ويشرح جزءٌ كبيرٌ من الكتاب ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لتجنب شرّ الشقاق والحرب الأهلية. يفترض هوبز كيف ستبدو الحياة بدون حكومة، وهي حالة يسميها {حالة الطبيعة} التي يمتلك فيها كل شخص الحق، أو الترخيص، على كل شيء في العالم. يقول هوبز إن هذا سيؤدي إلى “حرب الجميع ضد الجميع}.
 [ستيفن دي ويزي محاضر أول في النظرية السياسية بجامعة مانشستر البريطانية]