الأدب والفاعليّة التربويّة

منصة 2021/09/05
...

أ.د. مها خيربك ناصر
يحيل المعنى العجميّ لمصطلح الأدب، من حيث الأصل الاشتقاقيّ، على فرضيتين؛ اشتقاقه من كلمة الأدب أي الدعوة إلى الطعام، واشتقاقه من كلمة الدأب، أي الدعوة إلى العمل. ويحيل، من حيث الدلالة الاصطلاحيّة، على حديث الرسول (ص)، والذي جاء فيه: «أدّبني ربي فأحسن تأديبي». فالأدب، وفق هذا السياق، ارتبط بمعنى الأخلاق الكريمة.
تشير الإحالات السابق ذكرها إلى أنّ مركزية المفهوم تضمر دعوة إلى تكريس ثلاثة ثوابت تحرّض على الحركة، وهي:
1 – ثابت تأسيسيّ، قوامه السعي إلى إغناء الفكر بغذاء معرفيّ دائم.
2 - ثابت إنتاجيّ، قوامه السعي إلى تفعيل الحضور المعرفي وتجسيده بالعمل.
3 - ثابت أخلاقيّ، قوامه تبنّي القيم الأخلاقيّة الحسنة بما يضمن فرادة النموذج وتكريس حضوره سعيًا يقينيًّا وروحيًّا ووجدانيًّا.
تهدف حركيّة الأدب الفاعل، إذًا، إلى التأسيس لحركات فكريّة لا تنتهي، وإلى الإنتاج المثمر والبنّاء، وإلى ترسيخ القيم الأخلاقيّة المرتبطة بالمعرفة والوعي والإرادة، غير أنّ ما تكشفه عملية رصد دقيقة للساحات الأدبيّة العربية المعاصرة، ينبئ بكارثة؛ لأنّ ممتهني الأدب قبلوا الدخول في بازار المصالح والنفعية؛ لينالوا الحظوة والشهرة المزيفة التي تحقق لهم المزيد من التكريم باسم حداثة امتُهنت وانزاحت عن مفهوم الفرادة والإبداع وانقطعت عن الأصل، فسهُلت استباحة حرمتها وصارت متاعًا سهل المتناول يدعي وصالَها الكثيرون.
أنتج هذا الواقع انتكاسات فكريّة، وتراجعًا في مستوى الأداء التعليميّ والتثقيفيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ، وتزايدت القطيعة بين الإنسان العربي وأصالته، وتعاظمت حال الاغتراب النفسيّ والاجتماعيّ والقوميّ، فالأجيال العربية، اليوم، تحتقر لغتها القوميّة، وتجهل تراثها وتهزأ من موروثها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها وتستسلم لإغراءات الهجمة الثقافية المبرمجة، وترى فيها مدخلاً إلى الحضارة العالمية الجديدة، فانتشرت في معظم طبقات المجتمع ثقافة الابتذال والنفعية والمحاباة والدجل والاستهتار بالمبادئ والأعراف والقيم والأخلاق، وتسللت المفاهيم الجديدة إلى قناعات المربين والمفكرين، وتحوّل الإنسان العربيّ عن ثوابته القيمية إلى إتقان أساليب الانتهازية فصار التهذيب الاجتماعيّ من الموبقات، والتمسك بالقيم والأخلاق والأعراف عنوان تخلف، والتمسك بقضايا الحق والعدل والمواطنة مغامرة، ومحاربة الفساد والمفسدين تخريبًا، والتسلح بالمنهج العقليّ، والفكر النقديّ مؤامرة، ورفض التبعية تمردًا، والرغبة في حياة حرة كريمة تحريضًا، والسعي إلى السيادة الحقيقية خيانة.
مما لا شكّ فيه أنّ للأدب دورًا فاعلًا في حاضر الشعوب ومستقبلها، والأدب العربي يحتاج إلى حركة هادفة إلى التأسيس وإلى إغناء الفكر بغذاء معرفيّ حرّ، وإلى تفعيل الحضور المعرفي وتجسيده بالعمل، وإلى تبنّي القيم الأخلاقيّة الضامنة فرادة النموذج وتكريس حضوره سعيًا يقينيًّا وروحيًّا ووجدانيًّا وإنسانيًّا. فهل من قيامة؟ من يدري؟