ميادة سفر
تبدأ القصة بخروج الكتاب من المكتبة، من مقعده الوثير ومكانه المحبب، إلى يدٍ أخرى، عندها تبدأ رحلة الفقد والاختفاء، فما يخرج لا يعود إلا نادراً، وما أخذ لا يسترد، هي حالة من أعار واستعار كتاباً، وقصة كتاب تائه بين أيدٍ عديدة، يحار على أي رف مكتبة يستريح، يتألم حين يرمى مهملاً على طاولة لا يقربها أحد.
لا شكّ أنَّ من المفيد وربما الضروري أنْ تتاح المعرفة وينشر العلم لكل طالب لم يستطع إليه سبيلاً، لا يجب أنْ تبقى الكتب مركونة على رفوف المكتبات يتآكلها الغبار وثمة قارئ شغوف يرغب أنْ تطالها يداه وينهل من فيض أفكارها، ويغوص في أعماقها، لا سيما أنّ مالكها قد أخذ منها ما يريد، وربما لن يعود إليها مرة أخرى، لكنْ أين تكمن المشكلة التي تمنع أصحاب المكتبات من إتاحة كتبهم للإعارة؟ ولماذا يتردد الكثيرون قبل السماح ليدٍ أخرى أنْ تمتد لتلتقط أحد كتبهم الأثيرة؟. إنه الشعور بالفقد والخسارة والحرمان لكتاب قد يكون عانى كثيراً ليحصل عليه.
ومن هنا ألا يجب أنْ تكون ثمة حقوقٌ تضمن عودة الكتاب حتى لا يتهم صاحبه بالبخل ومنع العلم، أسوة بحقوق المؤلف والناشر وغيرهما، قد يبدو الأمر غريباً لدى البعض، «حقوق قارئ» ومن أين يحصل عليها؟ وربما يقول قائل إنّ القارئ لا بُدّ أنْ يعيد الكتاب الذي استعاره وإنْ طال الزمن، على مبدأ «القارئ لا يسرق والسارق لا يقرأ»، لكن مهلاً؛ ألا توافقوني الرأي بوجود فئة من مدعي الثقافة؟
تلك الظاهرة التي تنتشر كالنار في الهشيم في هذه الأيام، أشخاص يراكمون الكتب شراء أو استعارة، لا لشيء إلا الاستعراض بها، والانضمام إلى قطيع مدعي الثقافة، هذا المدعي لا همّ له سوى استعارة الكتب التي لا يقلب صفحة منها، لمجرد التباهي بها أمام الآخرين، ومن ثم رميها في أحد الأدراج وحيدة لا قارئ يحنو عليها، ولا قلم يداعب صفحاتها، هذه الفئة المنتشرة هي من يخشاها أصحاب المكتبات، ويترددون في إعارتهم أياً من كتبهم، لأنهم لن يعاملوا الكتاب إلا كسلعة استعراض، وإنْ هم أعادوه؛ عاد مهملاً مهترئاً رطباً، لا حياة فيه.
أياً يكن المستعير؛ أكان قارئاً حقاً أم من مدعي قراءة، تبقى المسألة شخصيَّة بحتة، متعقلة بصاحب الكتاب ومدى قبوله ورغبته في السماح بخروجه من حيز ملكيته، وهنا يبدو من الطريف أنْ أختمَ بما قاله الروائي الفرنسي أناتول فرانس: «لا تعر الكتب أبداً، فلا أحد يرجعها، والكتب التي أحتفظ بها في مكتبتي هي الكتب التي أعارني إياها الآخرون»، هي نصيحة، أو ربما إيحاء لبعض المتسامحين أن خبئوا كتبكم، فما خرج لن يعود.