ضحى عبدالرؤوف المل
الرقص التعبيري هو جزء من الحياة الاجتماعية والفنية والسياسية وغيرها، التي تظهر إيحائياً من خلال الرقصات. إن كان رومانسياً أو حركياً، ليترجم الراقص التجارب العاطفية، والمعاني الخياليَّة، ويفرض تأملات روحانية. فضلا عن ذلك، بشكل عام، فإنه يصور التفردات الجسدية والنفسية، والحياة اليومية، وإيماءاتنا العادية، وهذه الأشياء الصغيرة التي يرمز تكرارها إلى كل المعاناة والمأساة العبثية الوجودية، وحتى القضايا الإيمانية المرتبطة بالقيمة الانسانية.
فهل الرقص هو احتفال بحدث ما ينبع من الوجدان والعقل معاً؟ أم انه يرمز الى قوة العاطفة عند الإنسان الواثق بخطوته؟
فمثلاً ليس من العبث إدراك قيمة خطوة الرقص عند الفنانة «جورجيت جبارة» فوصف حركة الرقص التي تقوم بها تعبيرياً هي فهم المعنى الكامل للنغمة أو الإيقاع أو الإحساس بمعنى الكلمة وموسيقاها اللغوي أو حتى رقص الكلمة في فضاء حركي، يرتبط بشكل شديد بالخطوة القادرة على توليد حركات اخرى يخفيها، ويظهرها الجسد تبعاً للإيحاءات الظاهرة والمبطنة. كما لو أنَّ علاقتها الروحانية بجسدها يمكن ترجمتها بالكامل من حيث اللغة والفكر المعبر عنه بالكلمات (الأداء الراقص مع القصيدة الشعرية).
فهل المعنى الراقص مخبوء في الفعل النغمي للكلمة؟ أم نواة المعنى الإيقاعي هي أقرب الى الإيحاء المحسوس لاستخلاص المعنى؟.
بمجرد تفكيك التمثيلات التي تربط الرقص بالأرض ميكانيكياً تنظر العين إلى الجسم الراقص، لتفكك تعبيراته، وتحللها الحواس مع العين لفهم ما يخبرنا به الراقص عبر الفضاء الحركي المفتوح، والمرتبط بالعلاقات الجمالية التي يحافظ عليها الجسد بليونته مع حركات تعبيريَّة مدروسة موسيقياً وإيحائياً، وأحياناً مع لغة شعريَّة كالتي قدمتها الراقصة التعبيريَّة «جورجت جبارة» الواسعة الخطى، والمتحررة روحياً من جسدها الذي يتوازى مع الجاذبيَّة، فتظهر حركة الجسد بمنظر طبيعي ذي ليونة تتناسق مع الأقدام والخطوات، والقدرة على الامتداد لفتح المسافة على فضاءات التنقل التعبيري الذي يشير صراحة أو ضمنا إلى الروحانيَّة المطلقة القابعة في المادة التي تتحرك، وهي الجسد الراقص (هوية شخصية). فجورجيت جبارة منحت جسدها جغرافياً خاصة لها خطواتها على الأرض حيث تتوازن بين الرأس وأصابع القدم ضمن «الفضاء، الذي يُرى من الجسد» في بناء النظام التعبيري الذي يترجم عقلانيات الإيقاعات المحسوسة حتى من نفحات هوائيَّة تصدر عن اليدين أو القدمين، وحتى تعبيرات الوجه وبالمقاييس المدروسة التي تفرضها «جورجيت جبارة» على خطوتها على الأرض أو في الفضاء الذي تفتحه مع الضوء المخصص لكل نغمة خاصة عندما تستخدم خطوتها ومن منظور الحركة الطبيعيَّة في الفضاء الحر. فهي قادرة على بناء جسدها ضمن حركات خاصة يتخيلها المتأمل لخطوات، وكأنها تخلق نغماتها الخاصة من خلال تباعد الجسد مع إمساكه بالعقلانيَّة المفرطة للخطوة المحسوبة بدقة على وقع النغمة.
إنَّ نغمة الكلمة أو نغمة الموسيقى أو حتى نغمة الصمت حيث تلتزم بحدود الجسد المنفصل عن العالم الواقعي وماديته، والمتصل بالروحانيات السابحة في فضاءات الحركة وفراغاتها والتي تشكل الأساس العلمي والمدروس لخطوة تميزت بها الفنانة جورجيت جبارة.
لا أعرف كيف تعلقت بخطواتها منذ طفولتي حين كنت أراها تحلق في فضاءات مخيلتي على شاشة تلفزيون لبنان أيام الأبيض والأسود، واليوم أشعر أني ما زلت أراها تحلق في فضاء مخيلتي، وهي تفتح إمكانيات عديدة للتفكير في الجسد القادر على تأليف عدة لوحات تعبيرية تقودنا في كل منها حيث الإنسان المتحرر من قيود المادة، ومعتقلاتها في اليدين والقدمين والرأس الذي يوازن بين الثقيل والخفيف نافياً كل تضاد جسدي، كأنها كتلة سابحة في فضاءات الحياة التي لا نراها إلا بالحس الحركي الإيحائي عندما تعيد دمج خطواتها واحدة واحدة حيث تتلاحم المساحات مع فراغات تخلقها، لتكوين المعنى أو النغمة او حيث تمنح الجسد روحانية الكلمة خاصة عندما ترقص على نغمة القصيدة الصوتيَّة من دون موسيقى وترية. لتؤكد قيمة الارتباط بين الحركة والشعور واللمس بحثًا عن أحاسيس حددتها خفية. لتمنح الجسد رقصاً في جغرافيا الكلمة أو النغمة وفق مسارات الخطوة التعبيريَّة.
فهل الرقص التعبيري هو سمة من سمات الشعوب؟ أم أنَّ الرقص لحن حركي يتوافق مع جمالية الحس؟