أ.د. مها خيربك
تتمايز اللغة العربيّة بنظام تركيبيّ، قوامه قوانين نحويّة علميّة منطقيّة، تحفظ سلامة البنيات التي تضمر دلالات معرفيّة وعلميّة وإنسانيّة، وتحرّض، في الوقت عينه، على التفكير والتحليل والاستنباط، لذلك ارتبطت عملية التعلّم والتعليم بمهارات لغويّة وفكريّة وثقافيّة وعلميّة غايتها تحريض الفكر على الشك والسؤال والنقد والنقض من أجل الوصول إلى نتائج يفيد منها الفكر، ويؤسس عليها معارف أخرى.
استطاعت هذه اللغة في العصر الذهبيّ للعقل العربيّ، بفضل خصائصها الاكتسابيّة والتطوعيّة، أن تكون لغة عالميّة وعلميّة، فدوّنت بها العلوم والمعارف والنظريات الرياضيّة والفيزيائيّة والكيميائيّة والطبيّة، وأعشاب والأدويّة، وصار تعلّمُها، واتقان قوانينها ومعرفة خصائصها حاجة ضروريّة لكلّ عالم ومفكرٍ وراغب في الحصول على المعارف وحفظ إبداعاته العلميّة والفكريّة والأدبيّة.
استنبط علماء اللغة العربيّة قوانين ساعدت على اتقان اللغة العربيّة، وعلى تحفيز المهارات، وتطوير الكفايات، وترسيخ معايير عقليّة ووجدانيّة تستند إلى ربط عملية التعلّم بالجانب المعرفيّ والمهاريّ والميوليّ والوجدانيّ، لأنّ قيمة المعرفة اللغويّة تجلّت في قدرة المتعلم على تنمية المدارك وتطوير قدراته النقديّة والتحليليّة والاستنباطيّة والعلميّة والإبداعيّة، وفق أدوات القياس المنطقيّة التي أدت إلى تدوين علومٍ أفادت منها الإنسانيّة.
ساعد القياس اللغويّ الراغبين في تعلّم اللغة العربيّة على الارتياض الذهنيّ، وعلى التعريف بالظواهر، ووضع الإشكاليات وابتكار الفرضيات والتعريفات ومقدمات يقاس عليها، من أجل الوصول إلى حقائق علميّة دُونت بلغة عربيّة سليمة، تمايزت أنساقها ببنية منطقيّة تربط الجزء بالكلّ المشحون بالقيم والدلالات والعلوم اللغويّة وغير اللغويّة.
فرضت العربيّة حضورها، قراءةً وكتابةً وتدوينًا، في عدد كبير من دول العالم، ولكنّ هذا الفعل الحضاريّ تضاءل بعدما تراجع حضور الإنسان العربيّ، وفقد دوره القياديّ، وتحوّل من متبوع إلى تابع، فالعجز، إذًا، عن مواكبة التكنولوجيا وتدوينها بلغة عربيّة، ليس في اللغة العربيّة، بل في القيمين على اللغة العربيّة الذين يشعرون بالنقص وبتفوّق الآخر.
تحتاج اللغة العربيّة، في هذا الفضاء الثقافيّ العالميّ، إلى مبدعين وعلماء وفلاسفة قادرين على تفعيل دورها العلميّ والحضاريّ، وعلى إحياء التراث الذي أفادت منه البشريّة، فيكون أصلا لعلوم جديدة يمكن التأسيس عليها، فتصير لغة علم وفن وأدب للعرب وغير العرب، وتستعيد دورها الرياديّ والحضاريّ.