ما لم يفهمه العالم عن المستشارة الألمانية الجانب الآخر من شخصية أنجيلا ميركل

بانوراما 2021/09/09
...

  ماتياس ماتياس، ر. دانيال كليمان   
ترجمة: مي اسماعيل
هذا الصيف، وبينما تتمهل مسيرة الجائحة وتعاود أوروبا الإنفتاح على الأعمال والترفيه؛ ستنتهي حقبة {أنجيلا ميركل}. وبعد شغلها منصب مستشارة ألمانيا لست عشرة سنة، فهي تستحق الاعجاب والمديح في نواحٍ كثيرة
حينما صنعت ميركل التاريخ في خريف سنة 2005 لكونها أول إمرأة تنتخب لمنصب المستشارية؛ كانت نسبة البطالة تزيد عن 11 بالمئة وألمانيا عرضة للاستخفاف على نطاق واسع باعتبارها {رجل أوروبا المريض}. كتب طلبة الدكتوراه على جانبي الأطلسي أطروحات محاولين كشف جذور المشكلات التي تعاني منها ألمانيا؛ ومتسائلين عن سبب صعوبة إصلاحها. وبعد أربع حكومات رأستها ميركل؛ أصبح معدل البطالة أقل من ستة بالمئة (وكان سيكون أقل لولا الجائحة)، ولا ينكر أحد قيادة ألمانيا السياسية والاقتصادية والمالية للاتحاد الأوروبي. 
 
القيادة العقلانية
في حقبة مبتلاة برجال أقوياء غريبي الأطوار ومتبجحيبن، مثل دونالد ترامب وبوريس جونسون وناريندرا مودي وجاير بولسونارو؛ قدمت ميركل نموذجاً للقيادة العقلانية الثابتة. بالفعل، وخلال السنوات المبكرة من رئاسة ترامب، كان المراقبون السياسيون على جانبي الأطلسي مولعين بإطلاق تسمية {قائدة العالم الحر} الجديدة على ميركل. لكنها لطالما رفضت تلك التسمية الشرفية؛ رغم أنها كانت دون شك القائد الفعلي للاتحاد الأوروبي.. ولكن ما نوع القيادة التي وفرتها للمشروع الأوروبي؟ تصوّر العديد من الدراسات المتوهجة عن عهد ميركل أنها منقذة أوروبا؛ اليد الثابتة الموثوقة التي قادت أوروبا عبر سلسلة من الأزمات غير المسبوقة. مقدمين دورها خلال العقد الماضي وفق الخطوط التالية- حينما هددت أزمة ديون منطقة اليورو بإرباك مؤسسات الاتحاد الأوروبي، تغلبت ميركل على المقاومة المحلية للتفاوض بشأن خطط إنقاذ أعضاء منطقة اليورو الأشد تضرراً، ووفرت الدعم السياسي لضخ سيولة ضخمة للبنك المركزي الأوروبي، ومهدت الطريق لعدد كبير من مؤسسات الاتحاد الأوروبي الجديدة؛ بما في ذلك اتحاد مصرفي شامل. وحينما ضم الرئيس الروسي بوتين شبه جزيرة القرم وتدخل عسكرياً في منطقة دونباس شرق أوكرانيا؛ حافظت على هدوئها وتسلمت القيادة للتفاوض على اتفاقيات مينسك. أظهرت ميركل إنسانيتها أثناء أزمة اللاجئين سنة 2015 (بتكلفة سياسية كبيرة)؛ بالسماح لدخول أكثر من مليون لاجئ (أكثرهم سوريون) الى ألمانيا. وساعدت دول الاتحاد الأوروبي بالمحافظة على جبهة موحدة خلال مفاوضات بريكست؛ مصرة على حرمة حريات التنقل الأربع وعدم قابليتها للتجزئة؛ بالنسبة للبضائع والخدمات ورؤوس الأموال والأشخاص؛ التي تُعرّف السوق الأوروبية الموحدة. وفي ربيع سنة 2020 ألقت بثقلها السياسي وراء إطلاق صندوق بقيمة 750 مليار يورو (913 مليار دولار) للتعافي من الوباء؛ ليكون تمويله من سندات مشتركة صادرة عن المفوضية الأوروبية؛ متخذة خطوة بارزة نحو اتحاد مالي أوروبي وحكومة اقتصادية. 
 
{ميركلين}
هناك الكثير من الحقيقة في هذا السرد الجميل عن ميركل؛ لكنه يروي جانبا واحدا من القصة. فهناك أيضا جانب آخر لقيادتها لأوروبا؛ من حيث أساليب صنع القرار المحددة التي اعتمدتها والمبادئ العامة التي وجهت سياساتها. كانت الحيلة السياسية الرئيسة لميركل في التعامل مع الأزمات السياسية في أوروبا هي المماطلة والتردد؛ وقد أصبح هذا جانبا مشهورا عنها حتى حوّل بعض الشباب الألماني إسمها الى فعل: {ميركلين- merkeln}، وأصبح مرادفا عاميا للتردد المزمن أو عدم القول أو القيام بأي شيء بشأن قضية ما! إعتادت ميركل (في كل قضية تقريبا) تجنب المواجهة السريعة والتردد عند اتخاذ قراراتٍ كبيرة حتى آخر لحظة ممكنة؛ وحتى حينها كانت توافق غالبا على اتخاذ أقل قدرٍ ضروري ممكن من الإجراءات لمنع انهيار الموضوع. وقد أدى تأنيها الستراتيجي (من أزمة اليورو الى أزمة سيادة القانون في هنغاريا وبولندا) إلى مشكلات خطيرة تتفاقم وتصبح متأصلة بشكل أعمق. 
لم تكن تكتيكات {ميركل} فقط هي التي أثبتت إشكاليتها؛ بل كان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو جوهر العديد من سياساتها؛ والتي يمكن تعريفها بإعطاء الأولوية بشكل ممنهج للمصالح التجارية والجيو- اقتصادية الألمانية على القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أو التضامن داخل الاتحاد الأوروبي. 
فقد مالت (في العديد من سياساتها) الى وضع مكاسب ألمانيا ومنافعها قبل المبادئ والقيم الأوروبية. 
وهذا كان أيضا الحال في أزمة منطقة اليورو؛ حينما جرت هيكلة عمليات الإنقاذ في الاتحاد الأوروبي بشكل مصمم لصالح المصرفيين الألمان على حساب العمال اليونانيين والبرتغاليين. 
وحتى في موقف قيادتها الأخلاقية الأكثر جرأة؛ عند أزمة اللاجئين سنة 2015- 2016؛ فقد فشلت عند نهاية المطاف بإقناع أقرانها من قادة الاتحاد الأوروبي بصياغة سياسة إنسانية مشتركة؛ واللجوء بدلاً من ذلك إلى صفقة {المال مقابل اللاجئين} غير المستساغة مع تركيا. رغم ذلك فقد كانت ميركل أكثر شجاعة في قيادتها وأقل التزاما بمنطقها السابق في قضايا اللاجئين ومواجهة جائحة كورونا مؤخرا؛ رغم أنها ستترك خلفها تركة معقدة. 
الباب المفتوح
طبقت ميركل سياسة {الباب المفتوح} أمام اللاجئين؛ الذين جاء أغلبهم من الشرق الأوسط؛ وتخلت عن قواعد لائحة دبلن الخاصة بالاتحاد الأوروبي؛ التي تسمح لألمانيا بإعادة طالبي اللجوء الى أول بلد أوروبي يمرون فيه. وقالت بدلا من ذلك أن اللاجئين السوريين الذين يتمكنون من الوصول يمكنهم البقاء في ألمانيا. مع شعور العديد من الألمان بالقلق لهذه الخطوة وكيف ستتحمل الدولة وطأة تدفق اللاجئين ذاك؛ أطلقت ميركل شعارها الشهير: {يمكننا فعل ذلك!}. وكذلك كان تصرفها الحازم سنة 2020 بعد ارتفاع أعداد وفيات الجائحة في إيطاليا واسبانيا. بالتعاون مع الرئيس الفرنسي ماكرون؛ جرى تأسيس صندوق تعافي أوروبي يوزع منح الاتحاد الأوروبي مباشرة بين الدول الأعضاء، تمويله من سندات اليورو (أو {كورونابوند}) التي تصدرها المفوضية الأوروبية وتضمنها جميع الدول الأعضاء بشكل مشترك. ووافقت أيضا على تعليق القواعد المالية للاتحاد الأوروبي، وقدمت حكومتها مقدارا قياسيا من الدعم العام للشركات الألمانية. ومُنح وزير المالية الديمقراطي الاشتراكي “أولاف شولتز” إذنا لتقديم أكبر حافز مالي في أوروبا لمنع الاقتصاد الألماني من الانهيار. 
يتفق معظم المحللين على أن ميركل كان سيعاد انتخابها غالبا لو اختارت الترشح لفترة خامسة (غير مسبوقة) في المنصب؛ فهي لا تزال السياسية الأكثر شعبية في ألمانيا إلى حد ما؛ بسبب قيادتها الاقتصادية الثابتة في الداخل قبل كل شيء؛ مهما كانت العواقب في الخارج. أما خليفتها في الحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي {أرمين لاشيت} فقد يفتقر إلى الحضور الشخصي والأفكار الجديدة؛ لكنه يظل متماشيا بشكل وثيق مع نهج سابقته.