اختبار {ترينيتي}.. بدء تأريخ الرهبة النوويَّة

بانوراما 2021/09/11
...

  دينيس أوفرباي*
  ترجمة وإعداد: ليندا أدور
ذات يوم، كنت شاهدا على تفجير نووي، كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، في موقع اختبار نيفادا، بمنطقة شاسعة على مبعدة ساعة الى شمال غرب مدينة لاس فيغاس، حيث يختبر الجيش الأميركي القنابل. كانت مهمتي ضمن شركة المقاولات العسكرية التي كنت أعمل بها هي دراسة تأثيرات التفجيرات النووية على الغلاف الجوي، وكانت كافية لإبقائي بعيدا عن الخدمة العسكرية في حرب فيتنام.
اشتملت التجربة التي أطلق عليها اسم {كابريوليه}، قوة 2300 طن من مادة {التي ان تي}، تم تفجيرها على عمق مئات الأقدام تحت سطح الأرض، وصوتها كان أعلى من اي شيء يمكن أن يكون على الإطلاق. على مبعدة أربعة أميال، كنا أنا ورئيسي في العمل داخل مقطورة تهتز، عندما انتفخت الأرض وصف من المشاعل حيث موضع نقطة الصفر، طارت في الهواء، ونحن نصور ألسنة اللهب تخرج من الأرض لتتحول الى سحابة من الغبار على هيئة فيل سرعان ما انجرفت نحو الاتجاه العام لمونتانا. كانت تلك أياما متهورة في مجال الأعمال النووية، عندما كان الناس يعتقدون أن بإمكانهم بناء الموانئ في بضع ميكروثانية من النشاط والهمة، أو حفر قناة بنما جديدة بين ليلة وضحاها عبر سلسلة من التفجيرات أو حتى تسيير المركبات الفضائية. 
كان كابريوليه جزءا من مشروع بلوشير الذي كان يبحث في الاستخدامات المدنية السلمية للتفجيرات النووية. 
 
جامبو
بواقع مرتين في السنة، في أول يوم سبت من شهري نيسان وتشرين الأول، يفتح الجيش الأميركي بوابة ميدان الصواريخ في وايت ساندز بولاية نيو مكسيكو، يسمح للمدنيين القيام بجولة في منطقة الرمال تلك التي أصبحت تعرف في ما بعد بموقع {ترينيتي}، حيث أجري أول تفجير نووي، ليبدأ مذّاك تأريخ الرهبة النووية. كان جي روبرت أوبنهايمر، عالم االفيزياء الذي ترأس مشروع مانهاتن لبناء القنبلة، هو من أطلق هذا الاسم عليه وقد استوحاه من قصائد الشاعر الانكليزي جون دون.
ما أن دخلنا البوابة، سرنا لمدة نصف ساعة بالسيارة، اجتزنا خلالها تلال الصحراء المليئة بأجهزة الرادار وقباب المقاريب (التلسكوب)، وصولا الى ساحة لوقوف السيارات. كان أول شيء نشاهده هناك هو {جامبو}، وعاء احتواء فولاذي بعرض 12 قدما أو ما يقارب ذلك، بجدران يصل سمكها لنحو 16 إنجا، وقد استقر على جانبه كمجرى مائي، ما يسمح للزوار بالسير خلاله.
 كانت الخطة الأصلية تنص على تفجير {الأداة} وهو الاسم الذي أطلقه علماء الفيزياء بمشروع مانهاتن على القنبلة داخل {جامبو}، ففي حال إخفاق الانفجار، فإن {جامبو} سيحافظ على ما قد تصل قيمته الى 250 مليون دولار من البلوتونيوم الذي شكل النواة المتفجرة للجهاز. بمتابعة الطريق عبر البوابة، وفي ممر تصطف على جانبيه الأسلاك الشائكة وعلامات تحذر من الاقتراب وأخرى من الأفاعي الجرسية، وصلنا الى منطقة مسيجة مغطاة بحصى زجاجي ورمال وحزم من نبات الميرميّة والحشائش المتناثرة.
{صرت الموت.. مدمر العوالم}
 كل ذلك بدأ هنا، في الساعة (5:29:45) من صباح يوم 16 من شهر تموز العام 1945، حدث، ما يمكن ان نصفه بأكثر التجارب الفيزيائية أهمية في القرن العشرين. استخدمت القنبلة مواد متفجرة لضغط كتلة من البلوتونيوم بحجم الكرة اللينة بهدف الوصول الى درجة كثافة حرجة ومثالية، ينتج عنها موجات متعاقبة مختلفة السرعة من الانفجارات المتكررة المحيطة بالنواة الانشطارية.
 وقد نجح الأمر، فقد أضاء الانفجار سماء نيومكسيكو قبيل دقائق من بزوغ ضوء الفجر، ما دفع بالدكتور أوبنهايمر ليدمدم مع نفسه بآيات من {البهاغافاد غيتا} (أو غيتا غيتا وهو الكتاب الهندي المقدس في الديانة الهندوسية-المترجمة) التي تقول: {ها أنا الآن صرت الموت ، مدمر العوالم}. بعدها بثلاثة أسابيع، وفي السادس من شهر آب من العام 1945، القيت قنبلة بتصميم مختلف قليلا، على هيروشيما أسفرت عن قتل 140 ألف شخص. فبإطلاق قطعتين كبيرتين معا من اليورانيوم، أدى الى تكوّن كتلة حرجة وهي اللازمة لحدوث التفاعل المتسلسل، الذي كان العلماء على درجة كبيرة من اليقين بنجاحه لدرجة أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء تجربتها قبل إلقائها، ثم كانت {الرجل البدين} وهو أسم قنبلة البلوتونيوم التي تم اختبارها في ترينيتي، والتي ألقيت على ناغازاكي في التاسع من شهر آب من ذات العام، سرعان ما تبعها إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية.
 
تفاديها كان اعجوبة
عند نقطة الصفر في ترينيتي، كان المئات يتجولون وكأنهم في سوق المقاطعة، لكن لم يكن هناك الكثير من الأشياء لمشاهدتها، فقد خلف الانفجار حفرة وصل عمقها لثمانية أقدام وعرضها نحو نصف ميل، مغطاة بحصى زجاجي والمسمى {ترينيتيت}، وهو عبارة عن الرمال المنصهرة داخل كرة النار، التي تبخرت ثم سقطت ثانية على شكل قطيرات مشعة منصهرة. لكن، شيئا فشيئا، جُرف الحصى وامتلأت الحفرة بالرمال الخشنة والأعشاب والصخور.
على برج بارتفاع 100 قدم، تم تفجير {الأداة}، لكن لم يتبق منه سوى وصلة معدنية تخرج من الأرض بطول إنج واحد. في موقع نقطة الصفر بالتحديد، أنشئ نصب عمودي يشبه المسلة من صخور سوداء مثبت عليها لوح يخلد ذكرى الحدث، مع نموذج لـ{الرجل البدين} التي كانت تشبه غواصة قصيرة بصلية الشكل بزعانف ذيل ضخمة. كانت كِسَرٌ من الترينيتيت الأخضر تغطي الأرض التي نقف عليها، ويعتقد أنها مشعة، مع علامات تحذرنا من رفع أي حجر لأنها ستعد سرقة لممتلكات حكومية قد تودي بنا الى الغرامة وربما عقوبة السجن.
اليوم، وفقا لإحاطة من قبل اتحاد العلماء الأميركيين، هناك ما يقرب من 13 ألف رأس حربي نووي على الأرض، ربما، بأعجوبة، لم يتم تفجير أي منها، بحالة غضب، منذ العام 1945، بالرغم من أن الأخبار تتوالى عن تجنبها أو النجاة منها بصعوبة. 
 
*صحيفة نيويورك تايمز الأميركية
*كاتب علمي متخصص في الفيزياء وعلم الكونيات