أفغانستان تشكو هجرة النخبة

بانوراما 2021/09/13
...

  نبيه بلوس 
  ترجمة: بهاء سلمان 
أحدهم صحفي لدى وكالة أنباء أجنبية، والآخر يعمل مع منظمة مساعدات غير حكومية تطور المجتمعات الريفية، والثالث فنان وجد الإلهام في موطنه كابول.
سابقا، لم يرغب أي منهم بالمغادرة. لكن الجميع الآن يريدون الخروج، وقد غادر بعضهم البلاد بالفعل، منضمين إلى أفواج الهجرة بنسب خطيرة درجة جعلت حتى حركة طالبان، التي عليها إدارة أحد أفقر بلدان العالم، تلاحظ هذا الحال المرعب. لأن معظم المهاجرين هم من الملاكات الفنية والعلمية الوسطية في افغانستان، وتمحو هجرتهم المكاسب القليلة التي تحققت خلال تجربة العشرين سنة الماضية لبناء البلد، كان ثمنها دماء ومليارات من الدولارات، خاضت فيها البلاد أوقاتا عصيبة لبناء الدولة.
                 
«نحن نفقد النخبة، وستكون العواقب ضخمة على البلاد،» كما يقول «الياس ورداك»، المستشار الأقدم بوزارة المالية الأفغانية، الذي قضى العقد الماضي بين افغانستان وألمانيا للعمل بمشاريع التنمية. ويشير إلى بقاء العديد من زملائه في البلد، ورغم رغبتهم بالبقاء، فالبعض يتوارى عن أعين حركة طالبان. وكل مكالمة يتلقاها يستمع فيها لعبارات أحدهم عن اضطراب الحال وغموض المستقبل، والتمزّق النفسي حيال ما يتوقع حدوثه لاحقا في بلادهم. وقام هذا المستشار بتشكيل فريق من ستة أفراد لمساعدة الأشخاص بتقديم طلبات الهجرة؛ وتمكن من تمرير نحو 800 طلب مساعدة.
يقول ورداك، متحدثا من منزله في ألمانيا: «لسنا في وضع يسمح لنا بإقناع الناس بالبقاء» لكن من جهة أخرى، ماذا سيحصل لهذا البلد؟ من سيعمل في الإدارات الحكومية؟ وحتى في القطاع الخاص؟ فهناك محاولات عدة للذهاب إلى الغرب، طلبا للأمان لهم ولأسرهم. ويتساءل ورداك: «كم هو العدد الممكن إخراجه؟ لا يزال لدينا أكثر من ثلاثين مليون أفغاني ينبغي عليهم البقاء، فما هو يا ترى الحل بالنسبة لهم؟».
 
المغادرة مكرهين
وتعد ثروة المواهب والخبرة التي هربت بالفعل، مع أولئك الذي خرجوا مسبقا، مذهلة، بحسب «زليخه عزيز»، مساعدة مدير المشروع الأفغاني لمدرسة بيركلي القانونية، وهو برنامج مجاني يوفر دعما قانونيا للأفغان خارج وداخل البلاد، وتضيف: «زملاؤنا من الباحثين القانونيين وحملة درجة الدكتوراه في الإصلاح الدستوري، الذين يمثلون نخبة العقول لأفغانستان، لم تكن لديهم مطلقا أية رغبة بالتوجه إلى الغرب، لكنهم حاليا يخشون على حياتهم، وعلى عملهم الذي كرّسوا أنفسهم لأجله».
كانت الفنانة «رادا أكبر»، مصوّرة الفنون البصرية تستعد منذ أشهر لإرسال أعمالها الفنية إلى فرنسا. ومع عودة طالبان إلى الحكم مطلع آب الماضي، اقترحت السفارة الفرنسية منحها تأشيرة دخول، وظنّت الفنانة الشابة أنها ستذهب لمدة لا تزيد عن عدة أسابيع فقط. وعندما شاهدت هي سيارات الحركة تملأ شوارع العاصمة، هرعت إلى السفارة الفرنسية، وانتظرت عملية الإخلاء بواسطة الطائرات العمودية، لتنضم مع غيرها المحشورين في مبنى السفارة لموكب مكوّن من 15 حافلة صغيرة يسير بحماية عربات مصفحة من مبنى السفارة إلى المطار. وتذكرت حوادث الموت في الطريق الى المطار عندما سقط الكثيرون قتلى في المدينة، فمع كل منعطف تذكرت تفجير قنبلة هنا، واعتداء هناك؛ والآن لقد حظوا بكل شيء.. نحن الذين خسرنا كل شيء».
 
إحساس مزدوج
عندما هبطت في باريس بعد عدة أيام، أجهشت رادا بالبكاء، مفتقدة منظر الجبال المحيطة بكابل. وتوالت عليها قصص الهاربين من أفغانستان، ومعاناتهم وأفراد أسرهم أحيانا، وتزاحمهم مع الحشود المتواجدة قرب مطار كابول، واضطرار البعض منهم للعودة إلى منازلهم، بسبب عدم تمكنهم من الوصول إلى أي طائرة تغادر للبلاد.
ليست هذه الحالة هي الأولى التي تفقد بها افغانستان نخبها. فقبل هذه الهجرة، ومع أكثر من 40 سنة شهدت حروب متواصلة، صار الأفغان يمثلون ثاني أكبر عدد لاجئين عالميا، مع تسجيل نحو ثلاثة ملايين لاجئ بوكالات الأمم المتحدة ويرجح أن تكون الحقيقة ضعف هذا الرقم.
وتصر حركة طالبان على أنها قد تغيّرت، ويقول قادتها إنهم يريدون من الناس البقاء، وأصدروا عفوا شاملا لخصومهم السابقين، مدّعين بعدم نيّتهم الانتقام من أي شخص عمل مع الحكومة أو حلفائها الدوليين.
من جهتهم، يتساءل مسؤولو حركة طالبان، عما سيفعله اللاجئون في الغرب؟ يقول أحد قادة الحركة: «الأفغان يتعرّضون للخداع عن صورة الغرب المزيفة، فهم يصنفون وفق درجات، وكلاجئين عليهم الشروع من الصفر، وسيعملون سائقي أجرة». أما الناطق الرسمي باسم طالبان «ذبيح الله مجاهد»، فقد ألقى باللائمة على الأميركان لتشجيعهم الخبراء على المغادرة. «لقد طلبنا من الأميركان إيقاف هذه العملية، لأن بلدنا بحاجة لخبرات أبنائه، ولا ينبغي أخذهم إلى بلدان أخرى».  
لقد بنيت هذه الخبرات بثمن باهظ، من المال وجهود المجتمع الدولي والحكومة، فضلا عن نفقاتهم الخاصة التي صرفوها على أنفسهم، ومعظمهم من الأجيال الشابة، بحسب صحفي غادر البلاد الى قطر، بانتظار انتقاله إلى أوروبا.القليل جدا من الأفغان لديهم الاستعداد لتقبل فكرة تغيّر طالبان، والكثير يلقي باللائمة على الحركة لسلسلة اغتيالات حصلت العام الماضي، طالت ناشطين وصحفيين بارزين، معتقدين أنها جزء من خطة لتأمين حصول معارضة بسيطة، حينما يتمكنون في النهاية من السيطرة على العاصمة.