متحف الصحة والنظافة.. أدوات لمعرفة تاريخ الأوبئة

بانوراما 2021/09/15
...

   أناليزا كوين
  ترجمة وإعداد: ليندا أدور 
 
عرضت داخل صندوق في متحف الصحة والنظافة الألماني قارورة زجاجية جميلة بلون أزرق، صنعت في العام 1904، لكن أناقتها تلك تناقض الغرض منها، فهي عبارة عن قارورة ملصقة بجيب يرتديه مرضى السل عند منطقة الورك للتخلص من «البلغم» الحامل للعدوى فيه بتحفظ نسبي.
«قبيل اكتشاف علاج السل باستخدام المضادات الحيوية، كان استخدام «قارورة الجيب» بدلا من البصق على الأرض، يعد تصرفا مهذبا»، توضح كارولا روبريخت، مسؤولة قسم التعليم في المتحف، اثناء جولة فيه، مضيفة «كانت الفكرة منها هي إتباع إجراءات صحية تمنع انتشار المرض»، كما هو الحال الآن اثناء الجائحة باِرتداء الكمامة أو العطاس أو السعال في المرفق. 
في مدينة درسدن شرقي ألمانيا، يقع المتحف الذي سعى ومنذ وقت طويل لتغيير الفكرة عنه بأنه يركز وبشكل ضيق على الطب، بل عمل جاهدا، ليروج لنفسه وليثبت بأنه هو «متحف للإنسان وجسم الانسان»، بحسب كلاوس فوغل، مدير المتحف.
 
المرأة الشفافة
افتتحت أول قاعة للمتحف في العام 2004، يشتمل المعرض الدائم للمتحف الذي يطلق عليه اسم «مغامرة الإنسان»، سبع غرف أو «عوالم عن مواضيع» للعرض، وكان من بين معروضاتها ملصقات تشجيعية تحث الناس على تلقي اللقاح ضد الجدري، الذي يعد أول مرض توفر له لقاح فعّال، تقول روبريخت: «منذ البداية، كنا نواجه مشكلات لإقناع الناس بأخذ اللقاح» قبل أن يصبح التطعيم ضد الجدري إلزاميا في عدة أماكن، من بينها أجزاء من الولايات المتحدة وما بات يعرف اليوم بـ «ألمانيا»، مشيرة بالقول: «نحن سعداء اليوم بالقضاء على الجدري ولم يعد موجودا، لأن الملايين، غالبيتهم من الأطفال، توفوا بسببه»، لكن ذلك لم يتحقق إلا بجعل التلقيح إلزاميا، الأمر الذي كان مثارا للجدل في ذلك الحين، كما هو الحال اليوم مع لقاحات فيروس كورونا. تقول روبريخت بأن النقاشات لا تزال على حالها لكن: «السؤال الأهم هو: أيهما يجب اعتباره أكثر أهمية: الحماية المفترضة التي سيوفرها التلقيح للمجتمع بأكمله، أم ترك الحرية لكل فرد لكي يتخذ قراره بنفسه؟».
من بين الأشياء التي يضمها المتحف والتي قد تبدو مفعمة، ربما بسبب تأريخها، هو أنموذج «المرأة الشفافة» الشهير بقوام نحيل وجميل وبالحجم الطبيعي، بذراعين مرفوعتين وأعضاء مرئية من خلال بلاستيك شفاف، يمكن للزوار، من خلال كبسة زر، التعرف على أعضاء الجسم التي تضاء بألوان مختلفة. يقول فوغل: «يشرح لك الأنموذج وبطريقة واضحة ومبسطة للغاية أين توجد الأعضاء والشرايين والأوردة والأعصاب، ويوفر الأنموذج شرحا للأطفال يمكّنهم من فهم جسم الإنسان على الفور».
خلال عهد الإمبراطور «فيلهم»، وفي العام 1912، أسس المتحف كارل أوغست لينيغر، رجل الأعمال وقطب من أقطاب صناعة منتجات النظافة، ولا يزال قائما حتى الآن ويزوره سنويا أكثر من 300 الف سائح، وكانت بدايته بعد افتتاح أول معرض دولي للنظافة، وكان عرض كرنفاليا أقيم سنة 1911 واستقطب نحو ستة ملايين زائر آنذاك، حيث اجتذبتهم الرغبة برؤية أشياء جديدة مثل مشاهدة البكتيريا بواسطة المجهر. 
 
سنوات الحرب
خلال الحكم النازي، أصبح المتحف ذراعا للدعاية، فبعد أن كان مؤسسة علمية رصينة تحول الى آلة لنشر إدعاءات كاذبة عن الأشخاص المعاقين وغيرهم من ضحايا النظام. وبعد سقوط الرايخ الثالث، تحول المتحف الى واحدة من مؤسسات الحكومة الألمانية الشرقية، ورديف للوكالة الاتحادية للتثقيف الصحي في ألمانيا الغربية. تعرض المتحف للقصف خلال الحرب العالمية الثانية، وأعيد افتتاحه سنة 1967، ثم أعيد ترميمه سنة 1990، بعد توحيد الألمانيتين، ليتحول المتحف، وفي انعطافة حادة، من رمزيته السابقة، مبتعدا عن موضوعه الأساس وهو النظافة، ليتوسع في مجالات أخرى كالطبية والتاريخية والثقافية، ليصبح اليوم منتدى للعلم والثقافة والمجتمع.
يقول توماس ماتشو، مؤرخ ثقافي وكان جزءا من المجلس الاستشاري في المتحف بأنه: «لم تكن لديهم الرغبة في التواصل مع الماضي في فترة جمهورية ألمانيا الديمقرطية او النازية»، مضيفا بأن معاداة الأجانب والخوف منهم هي موضوعات تتكرر مع كل جائحة، مشيرا الى نظريات المؤامرة وتصاعد العنصرية ضد الآسيويين خلال الجائحة الأخيرة، بقوله: «حتى في فترة الانفلونزا الإسبانية، قبل أكثر من 100 عام، احتدم النقاش حول مستوى الإنفلونزا بحسب البلدان، فهل هي الإنفلونزا الإسبانية أم البلجيكية، أم الفلمنكية، أم الروسية؟».الى جانب استعادة الأشخاص للميول والنقاشات ذاتها التي رافقت الأزمات السابقة، يتحدث ماتشو عن نوع من فقدان الذاكرة الثقافي الغريب الذي يصعّب من عملية التعلّم من الأزمات الماضية. يشير ماتشو الى أن الانفلونزا الإسبانية أدت الى وفاة أشخاص وصل عددهم الى ضعف الذين حصدتهم الحرب العالمية الأولى، لكن، مع ذلك، يلعب أحدهما دورا أكبر من الآخر في الذاكرة التاريخية، إذ يقول: «لماذا نعرف كل شيء عن عامي 1969 و1970، ولا نعرف شيئا عن إنفلونزا هونغ كونغ (وباء لفيروس الإنفلونزا H3N2 الذي انتشر بين عامي 1968 و1969 وأدى الى وفاة ما يقارب مليون شخص- المترجمة) والتي كانت حدثا مهما في تلك السنوات، وهذا الأمر يجعل من دور متحف الصحة الألماني كمؤسسة ثقافية، مهما للتذكير بها، فنحن غالبا ما ننسى الأوبئة».