أ.د. مها خيربك ناصر
تحوّل المعنى اللغويّ لكلمة الهيمنة من الأمن والإيمان والسلام والقيام على الأمور، إلى دلالات مرادفةٍ الخضوعَ والإذعان والتبعية والإلغاء، ما ساعد على خسارة مقوّمات الحياة الحرة الكريمة، على الرغم من شعارات منظّمات حقوق الإنسان، الهادفة إلى تنمية الوعي الفردي والجماعيّ، إلاّ أنّ طروحات هذه المنظّمات لم تتجاوز حدود المناظرات الكلاميّة، وبقيت معظم شعوب العالم تعيش مرحلة ارتهان فكريّ، أدى إلى تعطيل دور العقل، وتحويل أفراده إلى مجموعات تابعة، معنويًّا، إلى متبوع واحد يشجّع على الانهزاميّة القاتلة، ومن ثمّ الوصول إلى حالة من الشلل الفكريّ، يسهل معها وأد حرية التفكير والتعبير، و تحويل الثقافة عن مسارها الحقيقيّ، لتصير، أيضًا، التابع الأهم في المعادلات الدوليّة الجديدة.
تسعى المنظومات الثقافيّة العالميّة الجديدة إلى إلغاء الخصائص الذاتيّة للثقافات القوميّة المرتبطة بالأرض والتكوين البيولوجيّ والنفسيّ، ومن ثمّ حصر القيمة الثقافيّة بما تفرضه من شوائب ثقافيّة طرحتها كيمائية التحولات الحضاريّة الكونيّة، فصارت هذه المجتمعات مجموعاتٍ مجهولة تابعة، تتحدّد قيمتها بما تكسبه من الأرقام الحقيقيّة و الفاعلة في طرفي المعادلة الثقافيّة الحضاريّة العالميّة، وتحكّمت بحركتها قوى سياسية تدور في فلك السياسة المركزيّة الدوليّة الحاكمة والمتحكمة في مصير الشعوب.
تعكس مرآة الواقع الثقافي العربي افتقار المجتمعات العربيّة إلى صيغة منطقيّة تحدّد هويتها، لأنّها تتخبط بين تبعيتين؛ أولاهما التبعية إلى خارج يسعى إلى سيطرة تجعل من هذه المجتمعات ملحقًا اقتصاديًّا وثقافيًّا، وتدخله في مسلكية الخادم المطيع، وثانيهما التبعية إلى داخل يسعى إلى هيمنة تتباين في تنوّع أشكالها، ولكنّها تتوحّد في الأهداف، فإذا كانت الظواهر تعكس أنماطًا للأمن المزيف، فإنّ الهدف الأساس مُختزَلٌ في تعطيل طاقات الفرد، وإدخاله في مسلكية خدمة السلطة.
فرض الواقع المضغوط، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا، انتماءً مشوّهًا، شرع الإنسان العربيّ يمارسه ارتهانًا وجدانيًّا وعقائديًّا وعقليًّا، ما أفضى إلى إغراق المجتمعات العربيّة في خضم من المنازعات المفروضة، وإلى صياغة حبال الفتنة المدعّمة بشعارات التحدي، من ثمّ التسويق إلى تبنيها والعمل عليها والدفاع عنها بحجج ببغاوية مستوردة، غايتها تحويل العقل العربي إلى آلة ضجيج غوغائيّة، تتحكّم في تشغيلها مصالح الطامعين والمقاولين في الداخل والخارج، وتحويل الإنسان العربيّ، بصخب مفتعل، عن موروثه، ليسقط في أوحال الفوضى والضياع، والاستلاب، والاضطراب والقلق والتعثر.
تعمل المؤسسات الثقافية العالمية الكبرى على استغلال الأدمغة العربيّة، وعلى احتواء طاقاتهم الإبداعيّة، وتسخيرها لمصلحة الغزو الفكريّ، في وقت تمارس فيه السلطات العربية، على المفكرين، أسوأ أنواع القمع والإرهاب، ما ينذر بتفريغ هذه المجتمعات من حركة عقليّة نشطة وفاعلة، ويمهّد لتحويل أبناء هذه المنطقة إلى الحالة التي رسمها وخطّط لها الآخر، فيسهل استعبادهم. فهل سيتمرد المثقف العربيّ على أنواع الهيمنة ليصنع قدره وقدر أمته؟