صراع ميركل الطويل مع القوى اللامركزيَّة

بانوراما 2021/09/21
...

  فيليب أولترمان
  ترجمة: خالد قاسم
صافحت المهندسة مارين هاينزرلينغ أقوى امرأة في العالم وبدأتا بالرقص معا، كان ذلك في 17 أيار 2017 عندما وجهت دعوة الى مارين لزيارة مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واستلام جائزة مقابل عملها التطوعي وتدريس الفيزياء للأطفال اللاجئين.
 
كان محور الرقصة إظهار قوة الطرد المركزي، وهي في فيزياء نيوتن القوة غير المرئية التي تعمل على جسم يتحرك بمسار دائري. صار إفتقار وجه ميركل للتعبيرات علامة خالدة في الرسومات الكوميدية، أما دوران عينيها وعبوسها في المؤتمرات الصحفية فهما مواضيع مستمرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها في صورها وهي ترقص مع مارين كانت تبتسم.
ربما ابتسمت ميركل لأنها علمت أن المصورين لديهم فرصة لالتقاط تعبير مجازٍ عن فكرتها للقيادة. وكررت ميركل مفهوم قوة الطرد المركزي لوصف التحديات السياسية، اذ كرست معظم طاقتها السياسية طيلة 16 سنة باتجاه إلغاء الأزمات التي قد تخرج عن السيطرة.
على عكس كل أسلافها المستشارين السبعة من الذكور، تتنحى ميركل بإرادتها وفي نهاية ولاية كاملة، ومع أن مستويات شعبيتها تبقى مرتفعة جدا الى درجة دفعت المرشحين المحتملين لخلافتها يقلدون أسلوبها بطريقة أو بأخرى.
نجحت ميركل بالحفاظ على السلطة عبر نقل حزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي الى مركز الطيف السياسي، ودخل بتحالفات مع حزب يمين الوسط الديمقراطي الحر وحزب يسار الوسط الديمقراطي الاشتراكي. وصار حزبها الشمس الذي تدور الأحزاب الأخرى بمداره.
يقول نقاد إن ثمن نجاح ميركل كان تآكل المشهد السياسي، فهي بتبنيها سياسات وبرامج الأحزاب الأخرى جعلت من المستحيل التعرف على تلك القوى الألمانية التقليدية. 
أمضت ميركل السنوات الخمس والثلاثين الأولى من عمرها في الجانب الشرقي من الستار الحديدي، لذلك امتلكت خبرة عملية عن كيفية تفكك النظام السياسي بسرعة بمجرد إطلاق قوى الطيران.
بعد فوزها الأول بانتخابات 2005، جلبت أول مستشارة لألمانيا الى مكتبها إدراكا متصاعدا بأن أصغر القرارات في الدولة ذات الاقتصاد الأقوى والأكثر كثافة سكانية داخل الاتحاد الأوروبي له عواقب مباشرة على القارة ككل.
بعد مرور أشهر على بدء ولايتها الثانية، واجه الاتحاد الأوروبي خطر التمزق بسبب أحداث أسواق الأسهم. ووقع ركود عالمي ناتج عن انفجار فقاعة السكن في الولايات المتحدة مما أثار أزمة ميزان مدفوعات بمنطقة اليورو، والتي عجزت دولها عن المواجهة لأنها مرتبطة بالعملة نفسها.
 
اللاجئون
طالب مسؤولون في شمال أوروبا بطرد دول مثل اليونان وإيطاليا من الاتحاد عندما اشتدت الأزمة، وكان ذلك يعادل تفكك فعلي لمنطقة اليورو. لكن ميركل اتخذت الخطوات الضرورية للحفاظ على وحدة الاتحاد الأوروبي، وفاوضت على حزم إنقاذ للدول الأكثر تأثرا، ومنحت الدعم السياسي لضخ سيولة كبيرة نيابة عن البنك المركزي الأوروبي.
ارتقت ميركل مكانة القوة الأوروبية الوحيدة القادرة على إيجاد التسويات، بعد تذبذب نفوذ فرنسا في عهد الرئيسين نيكولاس ساركوزي وفرانسوا هولاند، وبدء بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد. احتفظت ميركل بهذا الدور في فترة البريكست، وتحملت بصبر مناشدة رؤساء وزراء بريطانيا على أمل إبقاء بلادهم داخل التكتل وحماية وحدته.
لم تعد ألمانيا تشكل تهديدا، لكن نوعا آخر من الشك بدأ بالتزايد وهو تحويل ميركل بلادها الى سويسرا أكبر حجما، وهي دولة تفضل دبلوماسية دفتر الشيكات على الصراع العسكري لكنها تبقى محايدة سياسيا مدفوعة بحماية علاقاتها التجارية أكثر من المبادئ.
أثارت ميركل غضب الصينيين عندما التقت الدالاي لاما عند بداية زعامتها، لكنها كثفت الروابط التجارية مع بكين بعد ذلك، مع زيارتها سنويا تقريبا وزيادة الصادرات ثلاث مرات على مدى 15 سنة.
ساعدت ميركل منشقين روس مثل أليكسي نافالني، لكنها سعت بلا هوادة لتكملة مشروع أنبوب الغاز {نورد ستريم 2} والذي يخشى كثيرون أنه سيزيد نفوذ روسيا الجيوسياسي. تتجاهل الدوائر السياسية في برلين شعور عدم الثقة تجاه هذه القرارات لدى دول مثل أوكرانيا وشرق أوروبا ودول البلطيق. وبينما اتخذت ميركل الخطوات الصحيحة دائما في أوقات الأزمات لضمان عدم خروج أوروبا عن السيطرة، لكنها لم تفعل الكثير لتوطيد استقرار الهيئات السياسية القارية عبر تعميقها.
أما بالنسبة للاجئين، ففي صيف 2015 عبر أكثر من مليون لاجئ ومهاجر الى أوروبا. وكان قرار ميركل بعدم إغلاق حدود بلادها أمام الواصلين عبر هنغاريا وإيواء أكثر من 890 ألف لاجئ في تلك السنة مشهور جدا، لكن الأقل شهرة هي السيناريوهات البديلة التي رسمها مستشاروها.
إغلاق حدود ألمانيا يعني زيادة اللاجئين على طريق البلقان، ما يسبب الفوضى في منطقة لا تزال تتعافى من سنوات الحروب الأهلية. وكان ذلك سيترك اليونان تتعامل مع ملايين اللاجئين بمفردها. وكان ذلك سيهدد بتدمير نظام شينغن (المبدأ الأساسي للحدود المفتوحة داخل أوروبا)، لذلك بدا استيعاب لاجئي سوريا وليس طردهم خيارا جاذبا للقوة المركزية.
أطلقت أحداث صيف 2015 قوى جديدة هددت بالضغط على قدرات الدولة الألمانية، إذ إزداد عدد موظفي المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين خمس مرات تلك السنة، وإضعاف قبضة ميركل على السلطة السياسية.
برزت قوى يمينية متطرفة استهدفت طالبي اللجوء بإشعال حرائق متعمدة واغتيال حليف لميركل مؤيد للهجرة عام 2019. ولم يشهد أي بلد أوروبي آخر عنفا يمينيا دمويا مماثلا في السنة نفسها مثل ألمانيا.
لكن ميركل مرة أخرى فهمت كيفية إبطاء وتيرة الرقصة، وقاومت مطالبات باستقالتها وجلست مع منافسيها داخل الحزب، وأجرت ترتيبات {المال مقابل اللاجئين} مع تركيا وليبيا والمغرب بهدف تخفيض عدد اللاجئين الواصلين الى بلادها. 
 
صحيفة الغارديان البريطانية