ميادة سفر
مع إعلان أصحاب مكتبة نوبل الواقعة في وسط دمشق إغلاق أبوابها في وجه القراء، بعد أنْ أغلقت في وجوههم كما غيرهم من المشتغلين في المجال الثقافي محفزات الاستمرار في بلاد تغرق في الاستهلاك، تقاطر مثقفو دمشق وكل من مرّ من هنا لنعي المكتبة وبدأ كل منهم يحكي قصته معها ومع غيرها من مكتبات سبق وأعلنت استسلامها، حزنهم ضاهى فقد عزيز غالٍ، لتبقى نعواتهم طي صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، سيقرأها قلة وتطوى.
يبدو أنَّ البعض وهو ينعى مكتبة كأنما ينعى الثقافة ككل،
خجولة هي الأنشطة الثقافيَّة هذي الأيام، متواضعة إصدارات الكتب، أما ما كان يأتينا من إصدارات عربيَّة بات البحث عنها يحتاج لـ «السراج
والفتيلة» هذا إنْ تجاوزنا الغلاء الفاحش.
لكنْ ما هي الأسباب التي دفعت كبرى مكتبات دمشق من مكتبة الزهراء إلى ميسلون إلى اليقظة وأخيراً نوبل، لإقفال أبوابها والابتعاد؟ هل هي أسبابٌ ماديَّة؟ أم أنّه عزوف القراء وندرتهم؟ أم هي الحرب التي باتت شماعة نعلق عليها أسباب فشلنا؟ مهما كانت الأسباب لن تبرر ما يجري، ودمشق كغيرها من المدن السوريَّة تفرغ من مكتباتها، تتغير ملامحها كل يوم، تفقد شيئاً من ألقها ورصانتها.
ما يحصل اليوم ليس وليد اللحظة، بل إنَّ احتضار المكتبات السوريَّة
عموماً والدمشقيَّة بشكلٍ خاص بدأ منذ سنوات بعيدة، وأتت الحرب
لتجهز على الأمل الباقي، وتشارك في الضربة القاضية التي ستعلن انتهاء الجولة الأخيرة وانتصارهم، إنّ ما نقوله ليس مبالغة ولا تشدداً بل هو واقعٌ يعيشه كل من عايش الهم الثقافي.
مع تراجع حضور المكتبات ذات الطابع التنويري والعلماني من جهة العناوين التي تعرضها، تنتشر أخرى متخصصة بالكتب الدينيَّة والسير، تحضر بشكلٍ لافتٍ لا سيما في السنوات الأخيرة، بواجهات فخمة، وتجليدٍ فاخر لمعروضاتها.
على الرغم من تراجع معدلات القراءة في البلاد العربيَّة مقارنة بغيرها من الدول، ولجوء أغلب القراء إلى الكتب الالكترونيَّة المقرصنة نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار الكتب الورقيَّة، وتخفيض أغلب دور النشر عدد النسخ المطبوعة سنوياً،
فضلاً عن سيطرة التكنولوجيا والأخبار السريعة والموجزة على حياتنا، رغم كل ذلك وغيرها من الأسباب لا يمكن أنْ نمرَّ مرور الكرام على هذا الواقع المحزن الذي وصلنا إليه، ولا يمكن تبرير إفراغ البلاد من ثقافتها، طالما هناك قارئ واحد ستبقى المكتبات ويبقى الكتاب، علنّا نتعلم من أخطائنا ونحافظ على ما بقي ونرممه.
نعم محزنٌ ما يجري ونحن نشهد تلاشي مكتبة تلو أخرى في دمشق، حزينة تلك الشوارع التي كانت ملتقى المثقفين والقراء والشغوفين بالكتاب أمام مكتباتهم الأثيرة، وموجعٌ أكثر أنْ تبحث عن كتابٍ ولا تجده أياً كانت الأسباب، لكنّ لنعمل كي لا تتحقق نبوءة أمبرتو إيكو وتتحول المكتبات إلى متاحف تثير الغرابة لدى أجيال التواصل الإلكتروني، والأهم أنْ نعمل لمواجهة ذلك المد الذي يعمل على قتلنا فكرياً إنْ لم يتمكن منا جسدياً.