نغمة الكلمة

منصة 2021/09/29
...

 ضحى عبدالرؤوف المل​
 
يرتبط الإيقاع بمفاهيم معقدة نوعاً ما، فإيقاع كل شيء من حولنا يرتبط بالحس النغمي المتغلغل في النفس، فكل فرد يستمتع بالإيقاع تبعاً لما يمتلكه من حسٍ إيقاعي جمالي عابق بحركة متخيلة تولد من التعبيرات والإيحاءات ذات المعنى الموسيقي الخاص، إذ يتم تحديد الإيقاع النغمي من خلال المعاني المختلفة من الكلمة الى الحركة في الهواء الذي يحمل عدة نغمات من المنخفض الى الأعلى، وبالعكس حيث حركة الأشجار والطيور والنبات، وحتى الأمواج في البحر أو قطرات المطر التي يمكن أنْ تتخذ عدة إيقاعات، ونحن ننظر إليها عندما تتساقط على الأرض، فالإيقاع بمكوناته المختلفة يولد من الحركة التي يلتقطها الحس الداخلي عند الإنسان، والذي يسمح بترتيبٍ منتظمٍ للأصوات التي يلتقطها الحس وفق النغمات المتقطعة والمتصلة أو تبعاً لجسد يستطيع أنْ يتناغم مع الصمت العازف على التخيلات. بمعنى خلق الإيقاعات من خلال الجسد الذي يستطيع توليد كل ما ذكرناه من الإيقاع الداخلي للحس الممتلئ بالنغمات، ما يجعل من التناغم المباشر بين الجسد ومفهوم الزمن هو وقع خطوات حركيَّة حسيَّة قادرة على رسم الوجود، المرتبط بمعنى وجود الشيء في اللا شيء دون العدم، كالخطوات التي ترسم وجودها في الهواء عبر الفراغ الذي يتجسد عبر الإيقاعات المختلفة. فالإيقاع يربط الكتلة أو الجسد بالعديد من المفاهيم الأساسيَّة للنغمة، وبالتالي الدخول في لب الإيقاع من خلال خطوة واحدة تحمل في طياتها ليونة قائمة على التعبير الحر الذي يطلقه الجسد، لخلق نغمة مادية محملة بقساوة جسد بات ليناً في الحركة والخطوات.
فهل الترتيب الإيقاعي والتناسب النغمي في المكان الفراغي هو رسمٌ إيقاعيٌّ لخطوات ترسم بجمالية موسيقاها الخاصة؟ أم أنَّ الرقص بأبعاده يشير الى قوة التعبير الروحاني الذي يطلقه الجسد من خلال الإيقاع؟ فهل يحدد الجسد طبيعة النغمة ومعناها؟.
يفرض الإيقاع نفسه من خلال النغمات المتقطعة أو الحركة القائمة على الحس أو خلق ماديَّة الشكل للإيقاع من خلال الجسد، وبشكلٍ طبيعي وبطرقٍ مختلفة كالمد والجزر، والزبد الأبيض على موج ذي إيقاع مائي يجعلنا في حالة راقصة من نوعٍ آخر. فهل الغيوم تحملُ في جيوبها إيقاعات ظاهرة وباطنة ومختلفة كما التناوب الليلي والنهاري؟ أم أنَّ فصول الطبيعة تمنح الإنسان إيقاعات لرقصات مختلفة؟ وهل رقصت جورجيت على نغم الكلمة أم أنَّها وجدت للكلمة إيقاعات راقصة؟
إنَّ المشاعر والأفكار التي توحي بها القصيدة هي أحد الأشكال الإيقاعيَّة التي لا يمكن استبدالها بآخر عند خروج الخطوات من خلالها. ومن وجهة نظر خطوات جورجيت جبارة المعرفيَّة والأكثر دقة عندما يرسمها الجسد، ومن الممكن التخيل وجود إيقاعات نغميَّة داخل الجسد الراقص من خلال قوة قدراته التعبيريَّة المشتركة وهذه سمة من سمات المفاهيم الإيقاعية ذات الأنماط التعبيريَّة، لرقصٍ قصائدي هو ظاهرة فنيَّة معقدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا، في الثقافات الفنية القديمة، والمرتبطة بأنواع أخرى وأنماط أخرى للتعبير عن أصول روحانية قديمة واسطورية ومنها الرقص على جدران المعابد الفرعونيَّة بمختلف حركاتها، ويمكن للمرء أنْ يتخيل ذلك عند رقص جورجيت جبارة على قصيدة «الباب» للشاعر بدر شاكر السياب أو قصيدة «شؤون صغيرة» للشاعر نزار قباني، أنه سابح مع الكلمة أو مع طقسٍ من طقوس الطبيعة حيث كان الرقص يتضمن مزيجًا غير متمايز من حركات الجسم والإيماءات، وعلامات التطلع الحركية ذات الصوت الموسيقي الجسدي المتمايز شعراً ورقصاً، بطرق إيحائيَّة لا يمكن لأيٍ من أنماط التعبير الجسديَّة أنْ تمنح الجسد تمثيلات شاعرية تتوحد مع الرقص (حركة الجسم المنظمة في الفضاء) والنص (انبعاث المقاطع المنظمة) والموسيقى (الأصوات المنظمة في الوقت المناسب) هو الإيقاع الذي حددته جورجيت جبارة مع حركة الكلمة قبل موسيقاها بفضل الإيقاعات المنبثقة من جسدها، والمحصورة بشاعرية تمتلكها رقصاً، ولا يمكن لهذه الظاهرة الفنية الأساسية أنْ تولد إلا في حالات معينة. فهل رقص جورجيت جبارة متجذرٌ بعمقٍ في تاريخها حيث رقصت أيضاً على قصيدة «كان لي بالأمس» للشاعر جبران خليل جبران وقصيدة «أضحى الثنائي» لأبن زيدون وقصيدة «الناسكة» للشاعر الياس ابوشبكة وقصيدة «ذاك المساء» للشاعرة فدوة طوقان وغيرهم؟