ميادة سفر
يحتفي العالم في الثلاثين من شهر أيلول «سبتمبر» من كل عام باليوم العالمي للترجمة، وهو اليوم الذي تم اختياره من قبل الأمم المتحدة تخليداً لذكرى القديس جيروم الذي يعدُّ قديس المترجمين، بعد أنْ ترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينيَّة، وارتحل خصيصاً لأجل هذه المهمة من مسقط رأسه إلى مدينة بيت لحم في فلسطين، لتصبح ترجمته للعهدين القديم والحديث هي المعتمدة من قبل الكنيسة الكاثوليكيَّة لعدة قرون، وكان أمضى سنوات طويلة من عمره قرب كنيسة المهد بعد تنقله بين عدة بلدان ليستقر في نهاية المطاف في بيت لحم ويعيش حياة التقشف والزهد.
يأتي الاحتفاء بيوم للترجمة من قبل المشتغلين بها والأمم المتحدة واتحاد المترجمين العالميين نظراً للأهمية الكبيرة التي تقدمها للثقافة عموماً من مد جسور من المعرفة والعلم بين مختلف بلدان العالم وتعزيز ما سمي بـ «تلاقح الثقافات»، فالترجمة جواز سفر وتأشيرة عبور تفسح المجال للنصوص التي كتبت بلغات أخرى لعبور الحدود الثقافية بل والحضاريَّة، تتيح تبادل المنتج الفكري والإبداعي بين الأمم والبلاد في مختلف بقاع الأرض.
عبر الترجمة إلى اللغة العربيَّة والتي تعود إلى قرونٍ طويلة مضت، تمكن القارئ العربي من الاطلاع على علوم ومعارف الحضارات الأخرى، فضلاً عن آدابها وفنونها، والمحتوى الثقافي العربي غني بالمترجمين الذين أغنوا المكتبة العربيَّة بترجمات ذات قيمة عالية ومضمون إبداعي مميز، وما زالت أسماؤهم لامعة في المجال الثقافي حين تركوا بصماتهم التي خلدت الآثار الفكريَّة للشعوب الأخرى.
نظراً لأهميتها والأمانة الملقاة على عاتق المترجم، لا يجوز الاستهانة بهذا العمل، إذ ليس كل دارس للغة أجنبية قادراً على دخول عالم الترجمة، فالمترجم الحقيقي هو من يتقن اللغة التي ينقل منها وتلك التي ينقل إليها، فكم قرأنا ترجمات ركيكة لعدم إلمام المترجم باللغة العربيَّة، ولكي يقدم نصاً جيداً عليه الحفاظ على روح وحياة البيئة التي خرج منها، وأيضاً إضفاء روح ونكهة البلد القادم إليه، وهذا يأتي من العيش في بلد النص الأصلي، الإلمام بثقافته وعاداته وقيمه المجتمعيَّة والحضاريَّة، اللغة ليست مفردات وتراكيب، بل طريقة حياة، منظومة فكريَّة واجتماعيَّة، لا بُدّ أنْ يدركها مترجم النص ليتمكن من تقديم نص يقرأ وكأنه بلغته الأصليَّة.
فضلاً عن ضرورة إلمام المترجم بالمجال الذي يترجمه، سواء كان أدباً من رواية أو قصة أو شعر أو كان علمياً أو فكرياً، بقدر ما يكون المترجم متمكناً ومالكاً ذائقة أدبيَّة أو فكريَّة أو علميَّة تجاه النص الذي يشتغل عليه، بقدر ما ينتج نصاً جديداً مترجماً بحرفية عالية، بعيداً عن الركاكة في المفردات والألفاظ، كما أنّ تمتع المترجم بثقافة جيدة تساعده في توضيح كثيرٍ من النقاط الغامضة والتي قد يستعصي على القارئ فهمها.
ونحن نحتفي باليوم العالمي للترجمة أعتقد أنّ غالبية القراء العرب مدينون لمترجمين كثر بثقافتهم وتعلقهم بآداب عالميَّة سواء الأدب الروسي أو اللاتيني، كما هم مدينون بمستواهم الفكري الفلسفي والاجتماعي والعلمي الذي ارتقى نتيجة ما قدم لهم من ترجمات لآلاف الكتب التي أغنت عقولهم وأثرت مداركهم.