الفيلم بين التجريب والحداثة

الصفحة الاخيرة 2021/10/03
...

  المحرر السينمائي
1 - التجريب ((Experimentation)): هو استخدام عنصر او لغة ما لأول مرة، اما الحداثة فهي استثمار نجاحات التجريب في اعمال متطورة. ويعد التجريب في مختلف الفنون أساسا للوصول إلى الحداثة، فالحداثة تستمد أدواتها من التجريب كمنهل تغرف منه وتصبغه بما ينسجم مع روح العصر أو المكان.
 
والسينما التجريبية بطبعها وفي عمقها أدوات تعبيرية قد تربك طرق إدراك المتلقي، كونها وفي أحيان كثيرة تخلخل الزمان والمكان، وكذلك فهي في اغلب الأحيان لا تخضع لوحدة سردية معينة بحيث تقلب الموازين وتتحدى المشاهد وتؤمن السينما التجريبية بمنطق تداخل الأجناس التجريبية مثل الفن التشكيلي، الموسيقى، الشعر، جاعلة من مسألة الوسيط السينمائي هدفاً في حد ذاته.
ويعد فيلم «كلب أندلسي» للمخرج لويس بونيل والذي كتب السيناريو له الرسام العالمي سلفادور دالي انموذجاً لمثل هكذا تداخل لمجموعة من الفنون، اذ ان الفيلم يحتوي على كثير من التعبيرات التشكيلية التي تميز بها أسلوب سلفادور دالي في الرسم، وكذلك فان الاثنين كانا ينتميان إلى المدرسة السوريالية.
ان السينما التجريبية تحاول أن تكون معبراً عن الهامش، سواء من حيث اختيار سبيل تقديم مادتها صوتاً وصورة وتركيباً، أو من حيث جعل مضمون الفيلم يحمل قيماً سياسية تتجاوز النظام الاجتماعي السائد، لذلك فهي ترى في نفسها القدرة على اخذ مسافة جمالية وفكرية تخلق قيما بديلة عن القيم السائدة كأنماط المشاهدة أو الاستقلالية، وكذلك فان السينما التجريبية ليس من غايتها تقديم سرد حكاية لها علاقة او هي قريبة من الواقع، أو تسجل حدثا على منوال السينما التقليدية، وفيلم مثل «الجدار»  لألن باركر، لا تجد فيه سردا حكائيا، بل هو عبارة عن مشاهد تشكيلية جميلة ترك فيها ألن باركر للمتلقي حرية التأويل.
ولكن للأفلام التجريبية شفراتها «دلالاتها» الخاصة التي سعى صانعوها لإيصالها للمتلقي ولكنها شفرات صنعت بطريقة تختلف عن الطريقة التي تصاغ بها شفرات الأفلام التقليدية، فشفرات الفيلم التجريبي غالبا ما ترسل من خلال الصورة لقلة الحوار فيه، بينما يعتمد الفيلم الروائي التقليدي على الحوار ومدلول المفردة ومجاوراتها في إرسال تلك الشفرات، وعادة ما تكون الأفلام التجريبية بالأبيض والأسود ويكون زمنها قصيرا، ويفكر مخرجو هذه الأفلام في أسلوب العرض قبل أن يفكروا في السينما كرسالة، وقد أطلقت على السينما التجريبية العديد من التسميات مثل السينما الصافية أو الخالصة أو السينما الشاعرية أو السينما الحرة وغيرها.
والفيلم التجريبي هو فيلم شخصي، اذ يسيطر صانعه على مجمل خطوات انجاز الفيلم وغالباً ما ينجزها بنفسه فهو يقوم بالتصوير والتحميض والمونتاج، وكذلك فهو يعتمد على انتاج ذاتي وميزانية قليلة ويتم توزيعه وعرضه ضمن منظومة علاقات تعاونية مثل المؤسسات شبه الرسمية والجمعيات وغيرها، والسينما التجريبية سينما عالمية، لكونها قليلة الحوار وتعتمد الصورة كأساس لها فهي سهلة الوصول، ومفهومة من الجميع.لقد سمحت لها هذه الخاصية بإزالة الحدود بين المجتمعات المتلقية المختلفة، وغالباً ما تفتقد السينما التجريبية إلى نص مكتوب ولكن ما ينتج من عمل في اخر المطاف يعتبر نصاً فيلمياً تجريبياً،  كونها لم تكن تطمح لخلق حركة أدبية أو فنية بقول لويس بونويل:-
(ان الغاية من السريالية لم تكن خلق حركة أدبية أو فنية أو حتى فلسفية جديدة، وإنما كانت غايتها تفجر النظام الاجتماعي ككل وتغير الحياة ذاتها) وتعددت تيارات السينما التجريبية فهناك سينما «الاندر غراوند» التي كانت احد تيارات السينما الجديدة التي نشطت في الخمسينيات من القرن الماضي وتعرف بأنها «سينما تحت الأرض» كون انتاجها يتم خارج استوديوهات هوليوود وخارج نظم الإنتاج التي تنتجها الشركات الكبرى، وظهرت سينما الاندرغراوند في نيويورك في سنوات الخمسينيات وكان هناك امتداد حقيقي سابق ولاحق لهذا الاتجاه وفي أوروبا بشكل عام وفي باريس بشكل خاص وقد تبلورت في فرنسا عام 1968 عندما قرر وزير الثقافة الفرنسي اندريه مارلو إلغاء الدعم لمركز الفيلم الفرنسي، ويمكننا ان نصل إلى نتيجة أن أفلام الأندرغراوند هي احد تيارات السينما التجريبية التي يعرفها «ميز» بأنها (شلالات من الصور غير الهادفة والفوضوية على خلفية من أصوات الدق والنقر المختلفة يتوجها نص طليعي متكلف)، والتي تغرد خارج السرب من ناحية الأسلوب أو المذهب أو التمويل ورافقت ظهور جيل جديد سعى لخلق ثقافة شبابية مفعمة بالراديكالية السياسية والثقافة الشرقية الروحية اذ (تناولت مسائل السحر والتنجيم والتحرر الجنسي والتحليق بالمخدرات وموسيقى الروك).
كذلك كان هناك تيار السينما الحرة التي كان رائدها الحقيقي ليندساي اندرنسون، والتي نقلت السينما البريطانية خلال فترة منتصف الخمسينيات الى منتصف الستينيات من مجال الافلام الهروبية والتاريخية التقليدية الى مجال الواقع الاجتماعي، وقد سبق ظهور هذه السينما ظهور مجلة سينمائية متخصصة هي «سيكوانس» التي رأس تحريرها اندرسون وهو ايضاً من اطلق، السينما الحرة على الحركة.
وانتجت أفلاما جريئة بأسلوب يتجاوز السائد كونه لا يكتفي بالعرض بل يحلل ويكتشف ويضرب في العمق وكان فيلم اندرسون «هذه الحياة الرياضية» احد أهم أفلام هذه الحركة وهو من بطولة ريتشارد هاريس، وهو يتحدث عن مأساة عامل منجم تحول الى لاعب ركبي بحثاً عن المال، بعد ذلك جاء فيلمه «يا لك من رجل محظوظ» ليصل الى أقصى حدود السريالية شكلاً والفوضوية مضموناً. 
تيار آخر يدخل ضمن السينما التجريبية هو السينما الشاعرية وتعتمد على شاعرية المشاهد وتحفيز المستوى الشعري، وان كانت الأفلام السينمائية تعرف بأطوالها ونوعيتها، تسجيلية كانت ام روائية فان السينما الشعرية تعتمد تفريق المشاهد بدلاً من تجميعها وتعتمد اللا ترابط بدلاً من المنطق والتراتبية، وهذا ما اخرج السينما الايطالية 
من واقعيتها الشهيرة على يد 
فيلليني وبازوليني وعلى يد مخرجي روسيا امثال تاركوفسكي، وباراد جانوف.
والسينما الشعرية هي تجريب يصل في الكثير من المرات الى حد التخريب، وبالتالي فما من علم تكريس من دون تجريب وتخريب، لان فشل التجربة يعني تخريب مكوناتها ويستمر هذا التجريب والتخريب حتى يتحقق الهدف التجريبي، كذلك لا يوجد نهج استوى من دون معارك مع الخطأ.
ومعظم أفلام السينما التجريبية بكل تياراتها هي أفلام نخبوية، قد يفسرها المتلقي العادي تفسيراً مغايراً تماماً لما يريده مخرج الفيلم وهذا ما حصل مع فيلم لويس بونويل « العصر الذهبي» اذ غضب الجمهور عند مشاهدته للفيلم وهاجموا الصالة ومزقوا اعلاناته المعروضة على الجدران، ثم منع الفيلم نهائيا وكتب بونويل للكونت (دونواي) «ها هي نتيجة فيلم، كنت اعتقده حانيا على الرغم من عنفه، والذي يترك الجمهور حالماً بدلاً من جعلهم يغوصون في كابوس» بذلك اصبح الفيلم وسيلة للتعبير الشخصي، ومن هذا المبدأ بدأت نواة سينما المؤلف وتشكلت تبعاً لذلك نظرية سينما المؤلف كإحدى الظواهر والخصائص التي صاحبت الموجة الفرنسية الجديد، التي بدأت سماتها مع ظهور مجلة دفاتر السينما الفرنسية عام 1951 والتي كان يرأسها اندريه بازان.
وتتلخص نظرية سينما المؤلف في ان مخرج الفيلم هو المؤلف الفعلي لقصة الفيلم، وهو الذي يتدخل في اداء الممثلين وفي الاضاءة وفي المونتاج وفي المؤثرات الصوتية وفي كل شيء، وأهم من كرس هذه النظرية وثبت طريقتها، الياباني أكير اكيرا سارا، انغمار بريغمان، مارتن سكورسيزي، راين دي بالما، الفريد هتشكوك.
ان التجريب في الفيلم السينمائي كان له الأثر البارز في تطور السينما خلال سني عمرها، بدءا من أفلام الإخوة لوميير حتى الوقت الحاضر، إذ ان التجريب مستمر وباستمراريته تستمر السينما، فلو توقف التجريب في أي مفصل من مفاصل الحياة او الفن فانه سيتوقف ومعه تتوقف الحداثة التي تستمد واقعها ومعرفتها من التجريب الذي يشكل منهلا ورافداً لها.