مرت ثلاثةُ شهور وأنا أسكنُ في هذه المحلّة، ذات الأزقة الضيقة المشحونة بدبيب الحياة نهاراً، والأنوار الخفيضة والجو الهادئ ليلاً. سكّانها بسطاء كحالتي أو أشد بساطة على مستوى العيش. أعيش في شقتي عازباً ولم أعبأ كثيراً بما يدور حولي، سوى صراخ الباعة المتجولين المزعج صباحاً، وهتاف الأولاد وشتائمهم حين يلعبون كرة القدم، أو عراك النسوة وأصواتهن التي يطلقنها كعيارات مدفعية من الأبواب والشبابيك. وما يشفع لي أنني أغنم بقسط كبير من الهدوء والراحة ليلاً، أستمع للموسيقى أو أقرأ كتاباً، لأن المحلة تغط في نومها وصمتها باكراً، فيمسي شارعنا كدرب في مقبرة.. أعملُ موظفاً نسّاخاً في دائرة التربية، وهذه الوظيفة منحتني راتباً بالكاد يكفيني. وهذا ما جعلني حذراً في موارد الصرف المادي. أكتفي بوجبة طعام من احد المحال، ثم أجلس العصر حتى غروب الشمس في مقهى متواضع عند طرف المحلة. أستمع في جلستي إلى أحاديث روادها، أو أنشغل بقراءة صحيفة أو مشاركة أحدهم بلعب الطاولة. لم يثر انتباهي سوى الرجل الستيني ذي الشعر الأشيب، يجلس في المقهى من دون أن يكلمه أحد أو يتكلم مع أحد. يحملُ كتباً في أغلب الاحيان، ثم ينصرف بصمت. لم أحتمل سعيرَ فضولي وقررتُ عند محاسبتي لصاحب المقهى سؤاله عن هذا الرجل الذي بلا شك يسكن في الحارة نفسها. اجابني صاحب المقهى واضعاً أصبعه على طرف فمه متذكراً:
- لعلك تقصد (الفهيمة)؟
ابتسمتُ وأزداد فضولي قائلاً:
- لا أدري بالضبط.. هو ذاك الرجل الذي غادر حاملاً كتبه...!
ضحك صاحب المقهى واجابني بسرعة مقاطعاً بعد أن أشار بكفه نحوي:
- نعم عرفته.. إنه الفهيمة.. هذا لقبه الذي أُطلق عليه في المحلة منذ سنوات. هو بالطبع مثقف وفاهم ومتزن، ولا يتكلمُ كثيراً من قبل ومن بعد فقدانه لنعمة السمع.
- (هل هو أصم ؟) سألته، فأجاب:
- نعم هو أصم، وحادثة صممه كانت قصة غريبة عجيبة ادهشت جميع سكّان المحلة في وقتها.
سحبت كرسياً واعتذرت من صاحب المقهى لأنه كان على وشك التعزيل، وطلبت منه أن يحكي لي تفاصيل القصة، فأجاب موافقاً :
- لا بأس.. سأحكي لك .. يا سيدي هذا الرجل يُدعى (حسيب). كان يعمل أميناً في المكتبة العامة وسط المدينة. بالرغم من سكنه في المحلة منذ مدة طويلة، فلم نر له أقرباء أو أصدقاء يزورونه. يعيش وحيداً في شقته الصغيرة، ويرتاد المقهى هنا في الوقت ذاته. مواعيد دخوله إلى الحارة وخروجه كانت ومازالت دقيقة. كنّا نستمع إلى احاديثه قديماً، بعد أن نستفزّه لكي يتكلم.. لقد تعلمنا منه الكثير، حتى أصيب بالصمم والسبب أولئك الملاعين( العفطية) الذين كانوا يمارسون هواية العفاط كل ليلة تحت شقته.
- يمارسون العفاط؟! ( قلتها ضاحكاً).
- نعم.. كان في المحلة قديماً طقس عجيب. يجلس العفاطون عند ناصية الشارع ليلاً ويتبارون ، من الذي يكون صوت عفاطه أعلى من الآخر، ضاحكين، مستمتعين بهذه اللعبة المثيرة للغثيان. وهم من أطلقوا على حسيب لقب (الفهيمة).
- كيف حدث هذا ؟ ( قلتُ وفي قلبي جوع لمعرفة باقي الحكاية).
اتكأ صاحب المقهى على كرسيه الوثير، وتلمظ بلسانه طرفَ شفته السفلى، واستمر قائلاً:
- الحكاية رواها لنا حسيب ذاته، فذات ليلة حين كان غارقاً في القراءة ، نزل إليهم بعد سماعه لأصوات عفاطهم الذي ملأ الزقاق. ثم وبخهم بقوة على فعلتهم تلك، وأنهم أفسدوا عليه وقته الجميل. ضحكوا وأزداد عفاطهم هذه المرة، توجهوا كلهم نحوه وصاروا يطلقون الأصوات باتجاهه كما تنفجر الألعاب النارية. وحين عاد إلى شقته مستاء من ردة فعلهم، توقع حسيب أنهم سيكفّون عن أفعالهم تلك. لكنهم زادوا عفاطاً، وازداد عددهم أيضاً، وصار الأمر كأنه تحد ما بين حسيب وشلّة (العفطية).
- نعم.. وماذا حدث لاحقاً؟
- في الليالي التالية، وحين تفاقم أمرهم وصاروا يتفاخرون بكثرة عددهم وشدة أزرهم وزخات عفاطهم، هددهم أستاذ حسيب مرة أخرى بالقانون. وأنه سيشكو أمرهم إلى مركز الشرطة. وما ان انتهى حسيب من جملته تلك، انطلقت نحوه عشرات (العفطات)، التي بلَّل بعضُها وجهَه برذاذ سبالهم.. كنتُ جالساً في المقهى حين مرّ حسيب عليّ وأعلن أنه ذاهب لمركز الشرطة وتقديم شكوى عند الضحى. ولكنني حين رأيته عائداً في المساء متعباً يجرّ بدنه صوب شقته، وقفت في الدرب وسألته( ها أستاذنا.. ماذا فعلت؟؟). فأجاب ووجهه كان مغبراً بالحزن ( لقد عفط الضابط في وجهي).
- أهه!!!
تنهد صاحب المقهى وقال:
- أي والله.. حتى حدث الشيء الذي صار سبباً لحديثنا الآن.. عصر أحد الأيام مرّ حسيب علينا ولكنه ليس كعادته، لقد كان يحمل كيساً في يده، وكان خفيفاً في مشيته. هتفتُ وراءه، ولكنه لم ينتبه لي. وفي اليوم التالي أختفى حسيب، ثم عاد إلينا بعد مكوثه في المستشفى.
- المستشفى ...؟! لماذا؟!
- لقد وضع في أذنيه قطرات من (التيزاب)، فأتلفهما نهائياً.
هطل عليّ الصمت وأنا انظر إلى وجه صاحب المقهى، الذي هزّ رأسه مؤكداً الحادثة ثم أضاف:
- نعم.. أتلف أذنيه لكي لا يسمع عفاطهم. ومنذ ذلك الوقت وهو أصم لا يسمع شيئاً
هززت رأسي واضعاً شفتي السفلى على العليا مستغرباً، وحين طال سكوتي، خاطبني صاحب المقهى:
- هذه هي قصة أستاذ حسيب.. ها..؟ هل انتهينا
ابتسم ونهض من مكانه، طالباً مني التعجيل لكي يغلق المكان. ثم سألته للمرة الأخيرة قبل خروجي من المقهى:
- والآن .. تلك الشلة من العفاطين هل هم موجودون إلى هذه الساعة؟.
ضحك صاحب المقهى وقال لي وهو يرتب الكراسي من دون أن ينظر إليّ:
- لا بالطبع.. لقد تفرقوا بعد أن يأسوا من استفزاز حسيب مرة أخرى.. لم نعد نراهم، بعضهم كبر وصار ذا عائلة ، وبعضهم غادر المحلة، وآخرون صار لهم شأن ومناصب مهمة.. كلنا نكبر يا بني ونتخلى عن تفاهاتنا الصبيانية. هم استمتعوا بوقتهم، ولكن للأسف حرموا حسيباً من الاستماع والإنصات إلى أي شيء في هذا العالم.. لقد صار يسمع بعينيه اللتين تعيناه على القراءة فقط..
ثم ودّعني وغادر صاحب المقهى بعد أن أقفل الباب، فوجدتُني وحيداً في الزقاق. سرتُ بخطى وئيدة صوب شقتي..
كانت المحلّة خرساء في تلك الليلة كعادتها..