التشكيليَّة عشتار جميل حمودي: أبي هـو أكاديميتي الخاصة بي.. وأشعر بأني امـتدادٌ له بطبعي أحب أن يرى المتلقي أشياءً جميلة بعيدة عن القبح
منصة
2021/10/05
+A
-A
حاورتها: نهضة طه الكرطاني
يثير فينا الفن كثيراً من الأسئلة، ويحاور الجزء اللا واعي من عقولنا، لأنه حالة إنسانية لا ترتبط بجنس أو هوية، وبالنسبة للمرأة يشكل عالماً من الخلق والإبداع، والإيمان العميق بذاتها وقضاياها ومواجهة الإقصاء الذي يمارسه المجتمع تجاهها، وهو السبيل الذي يمنحها القدرة على أن تلون القادم بألوان الفرح بعيداً عن الجهل والقبح والبشاعة، وفي لوحات الفنانة العراقية عشتار جميل نسبر فناً عميقاً نختزله في هذا الحوار..
* تمتاز عوالمك بهدوئها، فغالباً هناك امرأة تتأمل من خلف شباك. ربما لأنَّ العالم من حولنا يهتاج بشدة ويضج بالصراعات والتغيرات، فيكون السكون في لوحاتك نقيض الواقع بحثاً عن ملاذ أو اختلاق نوع من التوازن لأنَّ الفن حالة خلق دائمة وإعادة صياغة لكل مفردات الحياة؟
- مذ كنت طفلة وأنا لا أحب الحركة الزائدة، وبقي معي هذا الهدوء الصامت. كنت أنظر إلى الناس والشارع والمجتمع بتأمل وأرسم ما أحب أنْ أراه، ولم أرسم في لوحاتي ما يخدش الذائقة الإنسانية من صور ومناظر في الشارع، ولا حتى الأحداث السيئة التي مرت على العراق.
وأعتقد أنَّ تأثيرها السلبي لا يكون واضحاً ولا بادياً علي.. طبعاً هذا الأمر ليس بيدي، بل أنا بطبعي أحب أن يرى المتلقي والمشاهد أشياءً جميلة بعيدة عن القبح، تخلصه من المشكلات والمتاعب اليوميَّة، لهذا أرسم المرأة الهادئة المتأملة من شباكها وفيها أيضاً إشارة إلى الوحدة، لأنها كائن عصيّ على الفهم خصوصاً في مجتمعاتنا الشرقية، وهذا ما يتسبب لها في المعاناة كونها أماً أو عاملة، ودائماً هناك شيء لا تستطيع البوح به فلا تكون مفهومة تماماً، ومعزولة أو شبه منكفئة في عوالمها الخاصة حتى داخل أسرتها التي تحبها وترعاها.
* هل صحيح أنَّ الحياة هي التي ترسم للفنان خطواته في عالم الفن؟
- الحياة لا تسجل الأسلوب، إنما فقرات من لحظة معينة، مثلاً يعجبني مشهدٌ ما فأرسمه بأسلوبٍ ينبع من داخلي بشكلٍ غير متقصد، أي لا أقرر أنْ أرسم تكعيبياً أو انطباعياً، إنما كل شيء يتشكل لحظتها. ولم أقرر أنْ أرسم مثل أحدٍ من الفنانين، إنما فقط تعلمت أساسيات الرسم في دورات كانت تقام في المتحف العراقي للآثار، وبرعت فيها ووالدي كان يضع أمامي نحتاً تمكنت من رسمه، وأيضاً مارست النحت. لكن بالنتيجة أسلوبي جاء بشكلٍ عفوي وهادئ ومع هذا لا بُدَّ أنْ يكون لدى الفنان ثقافة فنيَّة بالأساليب الفنية وأهم الفنانين.
* إذاً هل استفادت عشتار من الراحل جميل حمودي؟
- من المفارقات أني عندما قررت إقامة أول معرض لم يكن يعلم بأني كنت أرسم، فهو كان يبعدني عن عالم الرسم لأنه يعرف أنَّ الفنان يعيش شظف الحياة دوماً. لكن لأني كنت أراقبه دوماً وهو يرسم أو ينحت برفقة الموسيقى الكلاسيكية والأغاني القديمة، تشكلت في داخلي رغبة كبيرة إضافة إلى الموهبة، ما دفعني للقيام بمثل هذه التجارب، فاستفدت منه في أنه كان يوجهني ويشذّب مسيرتي وأعمالي، وكانت والدتي تساعدني وتخبئ أعمالي التي أنجزها حتى حانت اللحظة التي قررت أنْ أظهر للعامة بفني الخاص، وعندما شاهد لوحاتي لم يستطع أنْ يمنعني وأخذ يشجعني ونظم لي معارضي فكان أبي وأستاذي وملهمي، بل لا أبالغ إنْ قلت إنه أكاديميتي الخاصة، لذا أشعر بأني تكملة وامتداد له.
* هل تحمل لوحاتك عناوين تعرف بها أم أنها تترك لذائقة المتلقي؟
- جميع الفنانين يعيشون مراحلهم الفنيَّة التي يركزون فيها على ثيمة معينة أو أسلوبٍ ما ويدخلون في كل مرحلة من التجريب والاندماج، مع طابعٍ معين للوصول إلى مرحلة الاكتفاء والإشباع. شخصياً مررت بمرحلة التركيز على النخلة كونها ترمز إلى العراق أولاً والعطاء الدائم ثانياً. وقبلها ولمدة طويلة أيضاً ركزت في رسوماتي على المرأة العراقية بكل
حالاتها.
وهكذا تجدين أنَّ المسألة ليست متعمدة بل هو إحساس ينبع من الروح أو بحسب الوقوع تحت طائلة تجربة ما أو سيطرة فكرة معينة بل وحتى القراءات والمشاهدات العابرة لها انعكاساتها.
* من يريد أنْ يفهم اللوحة عليه أنْ يتحلى بالصبر، وعليه أنْ ينظر بمخيلة متحررة من الأحكام المسبقة. وبيقينٍ روحي، وبتأمل متحمس، بهذا يكتشف الحقيقة في متاهةٍ أشبه بالحب فأيهما يرجح هذا.. كفة المتلقي الناقد وهو يتفحص لوحتك أم المشاهد العادي؟
- أكثر اهتمامي ينصب على الإنسان العادي ليكون هو المتفرج الأول على اللوحة، وطبعاً هذا لا يعني أني لا أفرح بأنْ تستوقف لوحاتي ناقداً ويعطي رأيه ويكتب عن أعمالي سلباً أو إيجاباً، لكن يبقى المهم أنْ تصل اللوحة الفنية الخاصة بعشتار إلى كل الناس ولا يكون الأمر مقتصراً على شخص متذوق للفن. ومع ذلك عندما أرسم لا أفترض أنَّ المتلقي ينتظر مني عملاً. أنا فقط أريد أنْ أخرج ما في داخلي وتوثيق اللحظات وما يدور حولها من عوالم، وبالمحصلة أنا أرسم أولاً لنفسي ثم للمتلقي. فالمتلقي البسيط قد لا يفهم اللوحة أصلاً إنما تعجبه الألوان فقط. فلا أستطيع أنْ أكيف رسمي بحسب جميع الأذواق، فمثلما هناك من يسارع لشراء لوحاتي هناك أناس لا تحب أسلوبي الفني أصلاً، وهذه ليست مشكلة بل تباين أذواق.
* إذاً هل تعتمدين أنْ تكون اللوحة مفتوحة أمام المتلقي أم إنك تحرصين على أنْ تكون هناك شيفرات تضفي على أسلوبك خصوصية وتفرد؟
- قد يحدث أنْ أعد لوحة ما هي أعظم عمل فني لي بينما ممكن أنْ يمرَّ بها المتلقي ولا تستثير اهتمامه، وعموماً عندما أرسم لا أتعمد التأثير في المتلقي بقدر ما أريد أنْ أرسم شيئاً ما. فحتى اللون والثيمة والتكوين باللوحة تأتي بشكلٍ تلقائي وغير متعمد. فالفنان يوقف اللحظة التي تؤثر فيه في لوحته ويخلدها باللون والفرشاة، وبذا تصبح اللوحات أجزاءً من حياتنا المعاشة.
* قيل إنَّ الفن يمكنه أنْ يقدم رؤية نقيَّة ومركزة في وجه ما يبدو أنه فوضى، إلى أي حد يمكن أن يكون كذلك؟
- جيلنا نحن الفنانات بالذات مثل سلمى العلاق وشذى الراوي وراجحة القدسي وغيرهن كنا نرسم الأشياء الجميلة في المجتمع، لأننا نريد أنْ نعكس الصورة المشرقة عن هذا المجتمع. وسألنا القائمون على معرض أقمناه في باريس، لماذا لا ترسمن ما يمر به المجتمع العراقي من دمار وويلات؟ فكانت إجابتنا أنَّ هناك من يرسم هذه الصورة أما نحن فمهمتنا إبراز الجمال وسط القبح.
* هل صحيح أنَّ المرأة تميل إلى الابتعاد نوعاً ما عن المدارس التجريديَّة في الفن، لتتجنب اتهامها بالغموض، أو لأنها تريد أنْ تحقق التواصل والفهم مع شرائح أكبر في المجتمع خصوصاً وهي تؤمن بهيمنة الفن الذكوري؟
- الفنان الحقيقي لا يختار أسلوبه، بل يصيغه بعد التنقل في تجارب فنية عدة، وإذا اختار أنْ يرسم هذا الأسلوب أو ذاك، هذا يعني أنه يقلد ولا يمكن للفنان أنْ يشتهر إلا بعد أنْ يحصل على لمسته وبصمته الخاصة به. وبالنسبة للفنانات العراقيات فهنّ لا يكدنّ يعدن على أصابع اليد، وأتكلم عن الفنانات الحقيقيات ومنهن وداد الأورفه لي التي تمتاز بالقباب وسلمى التي ترسم نساءً وسعفاً وقباباً وأبواباً وغيرها، وأسلوبها مميز مع أنه ليس بالتجريدي ولا الواقعي، كذلك أنا وراجحة القدسي، فبعد الدراسة وامتلاك الأساسيات يتكون الأسلوب بشكل
عفوي.
* علاقة القارئ بالأعمال المكتوبة بعيدة المدى مما يتيح للكاتب أنْ يكون أكثر تأثيراً مستفيداً من عامل الوقت، أما بالنسبة للفنان فليس للوحة سوى بضع لحظات تسترقها من مشاهد متعجل، فكيف له أنْ يحقق معادلة التأثير بأقل ما هو ممكن من الوقت المتاح لتلقي عمله؟
- اللوحة قد تجذب الانتباه لكنَّ القصة الأدبية قد لا تعجب أحداً وحتى استخدام الشيفرات الخاصة باللوحات قد يكون فقط انعكاساً لحاجة نفسية وليس لإدخال المشاهد في متاهات. واستخدام الرموز طبعاً يكون بدلالتها الرمزيَّة التي أستخدمها شخصياً في لوحاتي بكثرة مثل الشباك والأبريق والسعف والنخيل وغيرها. المتفرج قد يحب اللوحة أما بسبب الموضوع والألوان وليس شرطاً بسبب الرمز مثلاً الأبريق أو الورد أنا أحببت أن أرسمه ليس لأنه يمثل رمز الأمل.
* أيهما أكثر إضافة للفنان، المشاركة في المعارض الخاصة أم إقامة المعارض المشتركة بما تحققه من تعارف وتلاقٍ بين الفنانين وتجاربهم وجمهورهم، أم إنها مسألة نسبيَّة؟
- إنَّ إجابة هذا السؤال وفق معطيات الواقع الحالي غير ممكنة. فإذا احتكمنا للظروف الحالية التي يمرّ بها بلدنا، وما يعانيه من أزمة تتمثل في غياب المتفرج المتذوق للفن الذي ينفق من وقته ليذهب خصيصاً لمشاهدة وحضور معرض فني. ويكون التفكير بشكل عملي منطقي متجرد من الأنا العالية للفنان، يفترض أنْ نقر بأنَّ المعارض المشتركة حالياً هي الأفضل متمثلة بالحضور المشترك لجمهور الفنانين المشاركين، أما المغامرة بإقامة معرض شخصي مسألة تحتمل الكثير من الصعوبات. شخصياً أقمت معرضاً شخصياً سنة ،2017 فكان المعرض ناجحاً بشكل ملفت للنظر من حيث الحضور الجماهيري، لكن حالياً يراودني شكّ كبير في إمكانية الحصول على هكذا جمهور كماً ونوعاً، لو فكرت بإقامة هكذا معرض بسبب الظروف العامة للبلد، فضلاً عما ألقته كورونا على واقع الحال العام. فلهذا لا أفضل المجازفة بأي معرض.
* هل تعتقدين أنَّ الفنانات العراقيات استطعن أنْ يؤسسن هوية مشتركة تمنح العمل الفني العراقي النسوي طابعاً خاصاً، ليحققن التواصل ما بين الأجيال الفنية؟
- أكيد هناك لمسة خاصة بالفنانات الرائدات مثل سهام السعودي ونزيهة سليم وما بعد الرائدات مثل ليلى العطار وسعاد العطار وبعدهن جيلنا نحن، فلكل جيل بصمته الخاصة، ولدينا فن انثوي وهناك استمراريَّة. بينما فنانات اليوم لم يكن لهن الحضور القوي، ربما بسبب الأنانية الطاغية أو الظرف العام وقلة المعارض على الساحة، أما ما تعكسه معارض جمعية الفنانين فهو شيء مخجل، لأنها تقدم أحياناً لفنانات لا تستحق تجاربهن أن تضمها جدران هذه الجمعية العريقة، وللأسف الغالبية منهن الآن يعتمدن على فنانين يرسمون لهن في ظاهرة مسيئة بحق الفن.. ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد فن نسوي اليوم.
* هناك من يرى أنَّ القول بوجود فن نسوي يحقق المزيد من تكريس الإشكالات في الإبداع. فإلى أي حد تجاوزت الحركة التشكيليَّة النسوية هذا التقوقع لترسم صورة عن واقع المرأة العراقية وإثبات هويتها؟
- أنا لا أحبذ هذه التسميات وبحسب وجهة نظري هذا غير صحيح، فلا بُدَّ أنْ تكون التسمية شاملة لأنَّ الفن حالة إنسانية عامَّة بعيدة عن التجنيس كما أنه يكرس للنظرة الضيقة في التعامل مع الإبداع الإنساني.
فالأساس هو الجهد في العمل بينما ظاهرة التجييل حالة طبيعية لأنَّ كل حقبة زمنية لها مبدعاتها ومبدعوها.
* هل هناك فعالية فنية عامة أو خاصة في الأفق تستعدين لها؟
- أرسم وفق جهدٍ بسيط بسبب الظرف الخاص، وأقضي معظم وقتي في ترتيب أرشيف والدي وخصوصاً ما جمعه من كتب وموسوعات ومجلات دورية متخصصة، وهذه مهمة شاقة نظراً لما تعرض له هذا الأرشيف من بعثرة بعد انتقالاتنا العديدة في السكن، وقد تبرعت بجزء منه لأجل أنْ يستفاد منه الباحثون والمتخصصون، لأنَّ والدي شخصية مهمة في الفن العراقي والعربي وهو من عرّف بالفن العراقي في فرنسا، واستحق أن يقال عنه رجل الثقافتين ولكن للأسف اليوم ليس لنا أي اتصال بالسفارة الفرنسية مع اني أقمت أكثر من معرض استعادي خلال السنوات السابقة في أماكن متعددة داخل وخارج.
* أمنية أخيرة؟
- أن تستعيد القاعات الفنية عافيتها، مع أنها أمنية صعبة لأنها مسألة تنطوي على مجازفة كبيرة تحتاج إلى إمكانية مادية، خصوصاً مع عدم استقرار الأوضاع وصعوبة ترويج الفن التشكيلي.