شخصية متعددة الأوجه .. محمد علي كلاي.. المجد والكفاح

بانوراما 2021/10/09
...

   بينيال جوزيف   
   ترجمة: مي اسماعيل   
     أظهر فيلم وثائقي جديد عن حياة بطل الملاكمة الراحل محمد علي كلاي، كيف بقى البطل - الاسطورة مخلصا لنفسه في {رحلة التفوق}، فحينما توفي كلاي في العام 2016، أقيمت له جنازة شبه رسمية، وتأبين من الرئيس أوباما والأسبق كلينتون، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته؛ منذ ايقاده الشعلة الأولمبية في اطلنطا سنة 1996 حتى وفاته؛ أصبح محمد علي شخصية عالية التقدير، مجسدا لحركات الحقوق المدنية والإنسانية التي بات يرمز إليها في أميركا وحول العالم
وقدّم الفيلم الوثائقي الجديد {محمد علي}، من إخراج كين بيرنز، وسارة بيرنز، وديفيد ماكماهون، منظورا تاريخيا لحياة محمد علي، وقصة سردها عبر فك الطبقات الخفية لمسيرة أصبحت فولكلورا أميركيا، لعلها الصورة الأكثر ثراءً لحياة النجم الاسطوري المليء بالمفارقات الذي وصف بأنه المحارب من أجل الحرية، والوطني الأسود المدافع عن الأميركان - الافارقة؛ الذي شارك المنصة مع ديكتاتور زائير السابق موبوتو سيسي سيكو، (الذي بدا فساده الأسطوري وسجل انتهاكات حقوق الإنسان مناقضاً لدعوة محمد علي لحقوق الإنسان)، وهو رجل الأسرة الذي تعددت زيجاته رغم ذلك.
 
{أنا حر}
سلط الفيلم الضوء على نقاط النجاحات وهزائم محمد علي في الحياة وكيف كانت تلك المواقف تجسيدا للصراع السياسي والاضطرابات العرقية التي ميزت الحياة الأميركية (والعالم) خلال حقبة الستينيات، وتميل أساطير حياته التي ظهرت منذ سنوات عقد التسعينيات وما بعدها إلى تطهير ذلك الإرث؛ ما يجعل الأيقونة انموذجا أكثر استرخاءً للاستثنائية الأميركية من خلال تلطيف الأطراف الخشنة لمسيرته؛ ولمسيرة أميركا أيضا، لكن روعة الفيلم تكمن في تذكير جيل جديد من المشاهدين بأن التفوق الرياضي لمحمد علي وتمرده السياسي لم يُعرّفا حياته فحسب؛ وإنما عصرا أميركيا من الحساب العنصري والسياسي أيضا، وكان هناك أيضا الكشف عن الجذور لعصر «حياة السود مهمة- Black Lives Matter» في خضّم عواصف الستينيات السياسية؛ إذ يجري تصوير الفصل العنصري ووحشية الشرطة، والكراهية الثقافية للسود على أنها مألوفة على نحو مؤلم للجماهير المعاصرة.
عندما أصبح بطل العالم للوزن الثقيل بالملاكمة في العام 1964، خاطب محمد علي الصحفيين والعديد من الأميركان البيض بجرأة، قائلا: {لا يجب أن أكون كما تريدوني أن أكون؛ فأنا حر أن أكون كما أريد}؛ فحطم ميثاقا عرقيا غير معلن للرياضيين السود، وأعاد تخيل حدود الممكن بطرق توقعت
لحظتنا الحالية.
ولد كاسيوس مارسيلوس كلاي (سنة 1942- المترجمة) ونشأ في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي؛ ذات مواقف الفصل العنصري العنيف خلال الأربعينيات والخمسينيات، وترعرع وسط بيئة تاريخية شكلّها العرق على نحو لا يمحى، وكان عمره أصغر بستة أشهر فقط من {إيميت تيل} (صبي أفريقي أميركي اغتيل في ميسيسيبي عندما كان بسن الرابعة عشرة، في أعقاب حديثه مع امرأة بيضاء- المترجمة) فكانت النتيجة أن يرسل مقتله سنة 1955 موجات من الصدمة في ضمير الأمة الأميركية، ومدينة كلاي أيضا، بعد ذلك وجد الشاب كلاي ملاذا آمنا في الملاكمة؛ اذ أظهر قدرات دقيقة على الملاحظة لتواكب أسرع قبضة في تاريخ الملاكمة للوزن الثقيل، وبحلول العام 1960، فاز كلاي (وهو في الثامنة عشرة) بالميدالية الذهبية لدورة روما الأولمبية، وفي البداية أحب الصحفيون الملاكم الشاب الوسيم، والمتعجرف المغرور، واقتبسوا عباراته: {أنا لئيم جدا، ويمكنني أن أجعل الدواء مريضا..}؛ فقد كانت مادة جيدة للنشر، ثم توقفوا عن حبه.
 
كاسيوس إلى {محمد علي}
كان من أفضل جوانب الفيلم الوثائقي مراقبة تطور {كاسيوس} الى شخصية {محمد علي}، وبقى كلاي بشكل متعمد بعيدا عن نضالات الحقوق المدنية التي تصدرت عناوين الصحف على نحو متزايد منذ أوائل عقد الستينيات؛ لغرض حماية رعاته المتمثلة بنقابة {لويزفيل}، وسماسرة السلطة البيض الذين يمولون مسيرته المهنية المبكرة، لكنه كان يتوق إلى كرامة شخصية وأدرك سريعا أنه لا يمكن شراؤها، وجد كلاي الإلهام في منظمة {أمة الإسلام}، وأثار لقاء مع أحد أعضائها فضوله بشأن أن يصبح مسلماً، فقد كان هذا العضو يبيع صحيفة {محمد يتكلم} في ميامي التي كان يتدرب فيها على الملاكمة، حضر كلاي الصلوات الدينية في مسجد بميامي، فاكتشف حقيقة بديلة لمؤسسات التفوق الأبيض التي تم تطبيعها في شبابه، وتطور بعدها حين سمع رسالة عن حق السود بتقرير المصير السياسي والثقافي، المتوافق مع تطلعاته الخاصة في التمتع بنوع من الكرامة الشخصية التي حُرم منها الأميركيون من أصل أفريقي
على الدوام.
قدم الفيلم تفسيرا مُفحِما لتعلّق كلاي بجماعة {أمة الاسلام}؛ فبدلا من التخلي عن العالم الأسود الذي نشأ فيه من أجل الثروات المتوقعة، بحث كلاي عن الكرامة لنفسه والآخرين. والتقى (بصفته مناصرا متفانيا في جماعة أمة الإسلام) مع {مالكولم إكس}؛ الممثل الوطني للمجموعة، والذي أصبح لاحقا أحد أهم أصدقائه ومرشديه، تكشف القصة هنا عن نهوض البطل الشاب بما يكفي ليرى المخاطر (وقد يقول البعض التهور) الذي اتخذه لصياغة مصيره الشخصي والمهني، فقد كان توجهه إلى جماعة دينية؛ يصفها بعض صحفيي ذلك الزمن بأنها {متعصبة للسود} ينطوي على احتمال تدمير مهنته في الملاكمة، لكن كلاي رفض التراجع وحافظ على عقيدته كدرع واق من الإهانات والتهديدات العنصرية، وقام محمد علي بجولة أفريقية مطلع سنة 1964، وأصبح بعدها رمزا عالميا للكرامة السوداء، كما دعم التوجه الانفصالي لجماعة أمة الإسلام وفق منظور عنصري؛ ليس من منطلق الضعف بل من موقع القوة، وتنعم بشهرته المتزايدة؛ إذ التقى بالقادة الأفارقة ووجه التحية لحشود هائلة من الجماهير الأفريقية، وعمق علاقاته بالمجتمع الإسلامي العالمي.
اندمجت العقيدة الاسلامية الشخصية لمحمد علي مع القناعات السياسية لتبرز معها الحاجة لمواجهة التفوق الأبيض، مهما كان الثمن، وبينما تنامت قيمته بين مجتمعات السود داخل الولايات المتحدة وخارجها، تعكرت صورته في أعين الملايين من الأميركيين البيض ولم يعد يثير الاستمتاع بافتخاره وفكاهاته؛ وهو يبتعد أكثر فأكثر عن فكرتهم عندما يتحدث عما يجب أن يكون عليه الرياضي الأسود، وتركزت تلك القناعات مع رفضه للقتال أو الموافقة على حرب فيتنام ليتحول الى شخصية منبوذة وفق المنظور العام للأميركان البيض، وبرزت مكانته كرمز
للثقافة المضادة.
 
أيقونة القوة السوداء 
حُرِمَ محمد علي من وضعه كمعارض ضمير، ولاحقه رفض لجنة الملاكمة الأميركية السماح له بالنزال محليا؛ فتبارى في الخارج طوال العام 1966؛ قبل أن يتم تجريده من رخصة الملاكمة وبطولة الوزن الثقيل في العام التالي، لرفضه التجنيد في الجيش، ثم حُكِم عليه بالسجن خمس سنوات وغرامة قدرها عشرة آلاف دولار لمقاومته التجنيد في العام 1967؛ فأصبح محمد علي متحدثا متنقلا باسم {القوة السوداء- Black Power}، ونأت جماعة {أمة الإسلام} بنفسها عن البطل السابق حين واجه رياحا سياسية شديدة، وهكذا أصبح انموذجا للمقاومة السوداء ضد العنصرية النظامية داخل بلاده والإمبريالية الأميركية في الخارج.
اكتشف البطل الذي كان يوما ما سريعا يتفادى لكمات الخصوم أنه قد يتلقى الضربات، حرفيا ومجازيا، فقد خاض محمد علي خلال السبعينيات سلسلة من النزالات القاسية؛ فواجه {جو فريزر} ثلاث مرات واستعاد بطولة العالم بالوزن الثقيل في انتصار مفاجئ على {جورج فورمان} عند مواجهته في كينشاسا (عاصمة زائير حينها)، وتزامن الخلاص المهني لمحمد علي مع صعود المشاعر المناهضة لحرب فيتنام في أميركا؛ فانتشرت شعبيته من داخل المجتمع الأسود الى الرأي العام الأميركي، وأصبح يمثل نوعا من {وسيلة الاختبار} لرأي الأمة الأميركية، وأعادت خصومته المهنية مع جو فريزر استقطاب مخيلة عالم الرياضة ذي الغالبية البيضاء؛ وهو رجل وصفه محمد علي بالقبيح والغبي، في تلك اللمحات تجلت للمُشاهِد قسوة كلاي (العارضة أحيانا)؛ والتي خدمت طموحه. 
بعد هزيمته رياضيا أصبح محمد علي شخصية حصدت الاحترام والتعاطف؛ إذ جعلته الخسارة أمام فريزر (تحت أنظار ملايين مشاهدي التلفاز) في {نزال القرن} سنة 1971 أكثر إنسانية في أعين الأميركان البيض، وضاعفت حب
السود له.
اتخذ كلاي قرارات مالية كارثية؛ وأنفق على حاشية ضخمة ومنح المال للغرباء، وكان جزءا من الانكسار العاطفي لقصته (كما يبدو) شهيته اللانهائية للعقاب والمعاناة، وتلاشى قراره بالاعتزال في العام 1975 بعد آخر مبارياته أمام فريزر، حتى نزاله الأخير سنة 1981 حينما تلقى ضربا مبرحا ومحزنا على يد الملاكم شبه المجهول {تريفور بيربيك}؛ فانتهت مهنته الرياضية الى الأبد؛ وقد خرج منها بمشية أبطأ وحديث متقطع، وأعراض مرض باركنسون الذي ظهر لاحقا عليه خلال الثمانينيات.
رفض محمد علي وهو في قمة مجده حلما أميركيا متجذرا في العداء العنصري ضد السود، وتبنى بفخرٍ اسما اسلاميا، وعاش معتزا بكيانه الأسود من دون اعتذار، وحقق موقفه المبدئي المناهض للحرب تنبؤات {مالكولم إكس} بأن بطل الملاكمة الشاب من لويزفيل سيصبح رمزا لملايين المحرومين في العالم، وتجسيدا للتغيير الاجتماعي والسياسي لأميركا.