رياض النعماني .. شاعر فصيح أكثر من فضاء مفتوح للكتابة

منصة 2021/10/13
...

 سعد صاحب
لا اقول فاجأنا الشاعر رياض النعماني بهذا الكتاب الاستثنائي, ولكنني كنت واثقاً من هذه الكتابة النقيَّة, ومن هذا الأسلوب الباهر, ومن كل التلاوين الشعرية المتجددة. إنه نص مفتوح على كل الدنيا وما فيها من الجمال والحب والخير والسؤدد والتواضع, والرشد والكمال والولوج الى النهايات البعيدة, والذهاب الى أقصى الدواخل الإنسانيَّة العميقة والصعود الى أعلى قمة في جبل العزلة الذهبيَّة, والهبوط الى هدى التفاعل, ومطاردة ذلك الغول الذي يسد علينا الطريق.
إنه نصٌّ يدعونا للرقص الصوفي الدائري, على صوت الطبول المدوية في المسامع, وعلى نقرات الدفوف المتناغمة, والطيران أعلى وأعلى بأجنحة النور المقدسة, فإنَّ فراش الروح المتصوفة في السماء وزادها من مرابع الإله الخصبة. ناي وعود وكمان, ودراويش يأتون من كل الجهات, وألوان قزحيَّة تبرق في الوجدان السليم, كلٌ له دوره في هذا المهرجان الروحي الكبير, لترسيخ الأمل والمودة والفضل والكرامة والرضوان. لكن وحدها الروح العارفة تقف بقوة, ضد القتل والشر والدمار والعدوان والأذى, وتدافع عن الطيور والبلابل والعصافير والأشجار وعن البيئة التي دمرها القاتل.
 
انقطاع
المقام لغوياً هو الخطبة أو الموعظة, يلقيها الرجل في حضرة الخليفة أو الملك, أما المتصوفة فالمقام لديهم: الذوبان الكلي في خالق الأكوان, ويكتسب عن طريق المجاهدة والحلم والصبر والمشقة والرياضات والانقطاع عن الدنيا, وعبادة الله وحده بكل صدق وجلال. المتصوف في كل دقيقة يحاسب نفسه على الأخطاء والعثرات والمعاصي, ويكون دائماً في مشاغل تبعده عن الحسيات والمطامح الدنيويَّة, وربما يصبح المندفع من أهل الهواجس, بين ما كان عليه من الذنوب السابقة, وانتظار ما سيكون من أفعال القلب المباركة. وعند الاعتدال والتخلص من الكبر والشرور, تتحول هذه العبادات الى قوة عظيمة, تفيد بإسقاط الطاغوت, وتوجيه النفس الى السر المطلق العظيم والنور الأبدي الدائم السامي على كل شيء زائل.
 
أزرق – أخضر
الفيروز بحسب المصادر: حجر أزرق يميل الى الخضرة, واللون الأخضر من الألوان المحببة عند الناس, وهو ناتجٌ عن لونين هما الأزرق والأصفر, وهو باعث على الأمل والسعادة والفرح والابتهاج والسلام. يستخدم في الرايات الدينيَّة, وفي فنون العمارة العربيَّة، لا سيما القباب, وهو لباس أهل الجنة وفراشهم, كما مذكور في القرآن الكريم, ويتصف عشاق هذا اللون بالعاطفة والحنان والهدوء والمساعدة والبساطة والتسامح. أما الأزرق فالبعض عنه يقول: لون الحلم والطمأنينة والثقة والاستقرار, أو بحسب الشعراء والفنانين: لون الإلهام والروحانيَّة والصفاء والظلال العسجديَّة والأفياء والقوة والصلابة والطاقة والانتعاش.
 
ملكوت
لا يخلو الإهداء الى الشاعر الكبير مظفر النواب, من كلام فلسفي عميق, يشبه الهمس الداخلي المكتوم, وأقرب ما يكون الى كلام عابد ينادم الرب الجميل, بالشكر والحمد والعرفان والتواصل والدعاء, وبعد صعقة شديدة, يستريح قليلاً ثم يطوف في عالم من النور والأسرار والتجلي والملكوت. أراد النعماني بطريقة ما أنْ يقول: النواب صاحب رسالة كبيرة في الحياة, وقد تعلم منه أنَّ الكتابة مسؤوليَّة كبرى, وهي من أقدس الأفعال والدروس والتجارب والواجبات والمواقف. لا جديد إذا قلنا حياة الشاعر تتسم بالتضحية والصمود والفداء, وبمحض إرادته اختار طريق العذاب وكان يدرك اختلافه عن سواه من الشعراء الذين مجدوا الحاكم الرسمي, وكانت كتاباتهم تراوح بين الأغراض الشعريَّة التقليديَّة, بينما ارتفع بالقصائد الى مرحلة الشطح البعيد. هو درويش القصيدة, المصلوب على لوح الشعر بلا شكوى, مؤسس الخط الثوري والسلوك الجهادي القويم, غير المتجانس مع الوضع السائد, المجابه للمصائب والنوازل والمنايا, بقوة الروح واليقين والإيمان والإرادة. مظفر النواب نقل الشعر من حالة فرديَّة الى قضيَّة إنسانيَّة جديرة بالاهتمام, الى ولادة أجيال من الشعراء, تتحمل ما يترتب على الكلمة من جوع وموت وظمأ وتشريد, وإقامة طويلة في المنافي والسجون.
 
فلسفة
هذا النص الجميل, يحتوي على أسرار العارفين بالباطن, ويضم الكثير من روح الدين, والعلم والفلسفة والفكر والزهد والتصوف والتقوى, ويضج بالأفكار الغنوصيَّة واللاهوت والمعارف والخبرات. هو غناء صوفي حزين, الى وجه الرب البسيم, ودليل يرشدنا بالابتعاد, عن مطامح الدنيا وإرضاء الحكام, والتقرب من الفقراء, والاغتناء من الحضارات العالميَّة كالهنديَّة واليونانيَّة والفارسيَّة وسواها, والكتابة تتطور بتأثير قوة الاحتكاك الخارجي والتفاعل.
(يا اول الموت واخر الورد/ وما بينهما من هبوب وهبوط للمحيطات/ أعراس الضفاف الاخرى لاشراق العبارة/ اكتملت بنقصان الاخضر والابيض/ اشرق بي ايها الجوهر الابدي/ ضعني في السلم اللولبي لدوائرك التي لا تعرف الانتهاء).
 
اختناق
رياض النعماني في هذه الخطبة الطويلة, المسترسلة من دون وقوف أو نقاط أو فواصل أعادنا الى زمن الصوفيَّة والثوار المتدخلين في مشكلات الحياة الصعبة, إنه انتفاضة ثوريَّة عارمة ضد القتل والبشاعة والكراهيَّة والعنف والقسوة والاختناق.
المتصوف النقي يعيش في عالمين, الأول عالم التأمل والمناجاة والجذب والوجد والفناء والاعتكاف, والثاني الاشتراك مع العامَّة في الرفض والسخط والاعتصام والتحدي وإشعال فتيل الثورات.
(سنقاتل كل هذه الوجوه المتعددة للوحشة/ آه الاختناق الاختناق/ الاختناق في الزنازين والبيوت وفي الشوارع/ التي صار لها عنوان واحد هو الوجع/ ضع الشارع مكان الزنزانة/ والبيت مكان الدائرة/ سوف لن يتغير شيء/ وحدة وجوديَّة في مصائر هذه المفردات وحياتها الجاثمة).
 
مشاعر وطنيَّة
كان الصوفيون الأبرار يقفون الى جانب طبقات الشعب الفقيرة الثائرة ضد الغلاء والمجاعات والظلم والتهميش والفساد, وضد السلطة الجائرة المحتكرة للخيرات, وضد قراراتها الخاطئة المنصبة على مصالحها الفرديَّة, والامتيازات الشخصيَّة المكرسة للطبقات الخاصَّة, وتفشي ظاهرة الترف والرفاه والثراء, والاستحواذ على المال بصورة غير عادلة. كان الأثرياء على عدد الأصابع, وباقي أفراد الشعب من البؤساء, وهذا ما عزز من احترام هؤلاء الرجال الزاهدين بالثروة, والواقفين بوجه الطغيان واللصوص والسراق. ولا أحد ينكر دور المتصوفة البارز بتصعيد المشاعر الوطنيَّة عند الجماهير وتصعيد الاحتجاجات السياسيَّة المقترنة بالثورات الفكريَّة الكبيرة.
(في الهزيمة أواصل دفاعي اليائس عن كلمة الإنسان/ وإنقاذ رايته من التلوث/ سلطتي كل هذا الحب/ ولن أنحني أو أخون).
عذابات الروح
مقام الفيروز ترجم لنا بصدق عذابات الروح وتساؤلاتها الصعبة عن الغيب والوجود والورع والمقامات والأحوال, وسياحاتها في عالم الآخرة بلا كذب ولا رياء, واشتياقاتها الى الخلان الأوفياء الساكنين في الأعالي وبحثها المستمر عن الجوهري الخالد, وعن الحقيقة الماكثة في الفضاء الرحيب, وعن الحلم السرمدي البعيد المنال, وتطوافها الأبدي في ذلك الاتساع الهائل العميق. وهذا النص نوعٌ من الشعر الرصين الذي يفرض نفسه على الشاعر, فيفيض بالرؤى والعاطفة وحب الوطن والإخلاص, راسماً شكله ومحتواه بما يرغب وما يطمح وما يريد, وما على الكاتب سوى الاستجابة والإذعان الى صوته المجلجل في الضمائر.