حبسة (صويحب)

الصفحة الاخيرة 2021/10/19
...

حسن العاني
 
الى مئة سنة مضت أو دون ذلك، لم تعرف القرى العراقية شيئاً اسمه المدرسة والتعليم، ولا تعرف شيئاً اسمه التاريخ تؤرخ به افراحها واحزانها، ولهذا ابتكرت طريقة، ربما تكون (مقبولة) في اطار ثقافتها ووضعها العام، وذلك بالاعتماد على الوقائع والاحداث المهمة، وفي مقدمتها حصول زلزال مثلاً او حدوث فيضان، او سقوط كميات كبيرة من الثلج او الحالوب على غير المعتاد ..الخ. 
وهكذا تقول القرية (ولد فلان سنة الفيضان) او (ماتت فلانة سنة غزو الجراد) او ( تزوج فلان في سنة الكسوف )، ولا بد ان ذهاب (الشيخ) الى الحج او زواج ابنه او معركة هذه القرية مع تلك القرية وغيرها الكثير من الاحداث هي مما يصلح للتوثيق، والتعامل معها (تاريخاً) للولادة او الوفاة او السفر او الطلاق او الزواج، وعادة ما ترافق هذه التواريخ مفردة (قبل) او (بعد) على غرار ( .... قبل الفيضان بشهر واحد) او (... بعد الفيضان 
بشهرين)!.
في خمسينيات القرن الماضي غادر (صويحب) قريته الفراتية النائية، قاصداً بغداد، وهي اول زيارة له الى العاصمة لأمر مهم، وصويحب فلاح قارب الخمسين من العمر لا يختلف في شيء عن فلاحي قريته، رجل بسيط الى حد السذاجة، طيب السريرة، كريم اليد، لايقرأ ولا يكتب، ولهذا غمرته (حضارة) العاصمة، شوارعها واسواقها ومركباتها وقصورها وحدائقها ومطاعمها و .. و.. ونساؤها بالانبهار، وبينما كان يجلس في حافلة من حافلات (مصلحة نقل الركاب) مندهشاً بمقاعدها ونوافذها وبالمشاهد البغدادية التي تمر بها المركبة، وفي ذاكرته صور عن قريته وترابها وحميرها، وفي نفسه شيء من الحزن الموشوم بالحسد بين مايرى في بغداد، وبين ما يراه في قريته، انتبه الى امر غير مألوف يحدث فجأة، فقد ساد الأجواء هرج ومرج ولغط وتحرك سريع هنا وهناك في داخل الحافلة، وهو لا يعرف سبباً لذلك، ولا يدري لماذا أغلقت (السيارة الحمراء) ابوابها وضاعفت سرعتها ولم تعد تتوقف بين منطقة وأخرى، وبرغم ما يتحلى به سكان القرى من شجاعة، الا ان الخوف لامس رأس صويحب خاصة حين وجد نفسه مع الركاب الآخرين بدون استثناء في مركز الشرطة، وقد ابلغهم الضابط بأنهم جميعاً رهن التوقيف الى حين اكتشاف الحرامي الذي سرق (محفظة) احد الركاب، عندها فقط ادرك لماذا الهرج والمرج، ولكن السؤال الذي لم يجد له حلاً هو : هل من المعقول أن المدن الكبيرة ونعيمها وخيراتها وجمالها وثقافتها لا تحسن تربية أبنائها؟! بسرعة تم التعرف على (النشال) واطلق سراح الركاب بعد ساعتين فقط، وحين أنهى الرجل مهمته في العاصمة وعاد الى القرية روى لهم بالتفصيل حكاية توقيفه (حبسه)، وهم في قمة الدهشة، ومن يومها أصبحت (حبسة صويحب) تاريخاً للقرية (فلان تزوج قبل حبسة صويحب بسنة) أو (فلان مات بعدها بأسبوع )، الطريف في الأمر ان آلاف الرجال تعرضوا لاحقاً للحبس أو السجن وقبضوا ملايين الدنانير تعويضاً عن حبسهم بينما لم يقبض صويحب سوى
الشهرة!.