تجربة الفقد والتعافي العاطفي

منصة 2021/10/19
...

 نهى الصراف
 
تجربة فقدان شخص عزيز، يمكن أنْ تكون من أكثر التجارب الحياتيَّة قسوة في تأثيراتها الآنية وبعيدة المدى أيضاً إنْ لم تكن هي الأقسى على الإطلاق، في المقابل، يستطيع أغلب الناس تجاوز مرارتها مع انقضاء الوقت بمحاولة ترويض المشاعر وتحفيز ملكة الصبر لتصل إلى أقصى مدياتها. هذه (المنحة) التي يمنُّ بها الله على الإنسان هي التي تساعد الناس في العودة لممارسة حياتهم شبه الطبيعيَّة، بعد أنْ يتعرضوا لتجربة خسارة شخص مهم في حياتهم، بالموت.
لكنَّ الأمر المؤسف أنَّ بعض الناس، بكامل إرادتهم، لا يرغبون في النسيان، بل يختارون أنْ يغمروا أرواحهم في مستنقع الأحزان ويشربوا من الكؤوس المرّة من دون أنْ يروى ظمأهم وكأنهم يستمتعون بهذه المشاعر، وهي وسيلة لتعذيب النفس، بحسب متخصصين، لشعور داخلي يسيطر عليهم ويخبرهم بأنهم لم يمنعوا الأذى عن أحبائهم وكان بإمكانهم أنْ يفعلوا ذلك ببساطة، لو أنهم تصرفوا بصورة معينة مثلاً أو تواجدوا في مكان ما أو طلبوا المساعدة من طبيب آخر، وهكذا، تتوالى الاحتمالات وهي في مجملها مجرد سلوك عاطفي يرفض التسليم بالأمر الواقع.
في المقابل، يتمتع بعض الأشخاص بقوة في الإرادة تجعلهم يقفزون بمهارة على الحقيقة المفزعة هذه باستخدام حيلٍ نفسيَّة دفاعيَّة، مثلما يقرر علماء النفس. وفضلاً عن الصبر، هنالك التجاهل ومحاولات النسيان التي قد تنجح في مرحلة ما من مراحل التعافي العاطفي، في حين يتشبث البعض بالعمل فيغمرون يومياتهم بالأعمال المجهدة والشاقة خاصة تلك التي لا تتطلب تفكيراً، ربما تكون الأعمال اليدوية هي الأنسب في هذا الإطار حيث ينشغل المرء بعمل التفاصيل ثم يلجأ للتكرار، وهي طرق جيدة لتمضية الوقت ونسيان الأحزان.
لكنْ، تجربة الفقد قد تأخذ شكلاً آخر عندما تمرّ على حياة الأطفال الصغار وهي إذ تصفعهم بصورة مفاجئة بأناس مقربين منهم فهي تشبه رياحاً عاتية تضرب كوخاً صغيراً فتهشمه بغمضة عين. يظهر الأطفال مشاعر متضاربة وهم في مواجهة موت شخص عزيز عليهم، يتقدمها الغضب ورفض التسليم بالأمر الواقع، ثم تتوالى ردود الأفعال الغريبة كالصمت والعزلة عن الآخرين ورفض مغادرة المنزل. يحدث هذا الأمر بسبب ما يتمتع به هذا الكائن الصغير من مشاعر رقيقة للغاية يمكن أنْ تتعرض للخدش والجرح بسهولة، وسرعان ما يظهر ذلك في مجموعة من ردود الأفعال غير المتوقعة.
تحسباً لذلك، يقترح علماء النفس بأنْ يتم تعريض الطفل لتجربة الفقد مسبقاً عن طريق اقتناء حيوان منزلي أليف، كأنْ يكون قطاً أو حتى عصفوراً صغيراً. يبني الطفل في الغالب علاقة عاطفيَّة متينة مع هذه المخلوقات الوديعة، لاعتقاده بالدرجة الأولى بأنها قد تعتمد عليه جزئياً أو كلياً في إطعامها وإيوائها أو توفير الماء لها وحتى مشاركتها اللعب. 
فضلاً عن ذلك فإنَّ سلوكها وملمسها الناعم ربما يوحي بأنها مجرد لعبة أخرى بإمكانها أنْ تنضمَّ لمجموعة ألعابه العزيزة إلى قلبه، مع ذلك، فهي تتفوق عليها كونها مفعمة بالحياة والنبض والحرارة، تتفاعل معه وترد على أفعاله بالمثل وقد يتمثل للطفل والحيوان معاً بأنهما يشتركان في علاقة أسريَّة معينة.
إذا حالفه الحظ، إذا كان في ذلك من حظ، وشهد فقدان حيوانه الأليف بوصفها تجربة المواجهة الأولى مع الموت، فإنها ستكون بالتأكيد الدرس الأول الذي سيتعكز عليه في رحلته الطويلة مع الحياة، رحلة سيقابل الموت عندها في كثير من المناسبات، حيث ستختفي وجوه عزيزة إلى قلبه من خارطة حياته على وجه السرعة أو الصدفة، لا فرق، وسيتعين عليه مواجهة الأمر، ربما وحيداً.