أغاني وموسيقى المسلسلات وتربية الذائقة

منصة 2021/10/20
...

 د.عبد الخالق حسن
ليس هناك شيء يرسخ في الذاكرة ويمس الوجدان، مثل الموسيقى أو اللحن أو الكلمات المغناة. ندندن بها وقت خلواتنا أو أنها تقفز في أوقات لا نتوقعها. ولعلَّ من بين ما رسخ في ذاكرتنا هي الأغاني والمقدمات الموسيقية للمسلسلات التي شاهدناها في الثمانينيات والتسعينيات. وللطرفة كنت مرةً في زيارة قبور أهلنا الراحلين، فلازمتني حينها أغنية (شكول اعليك) للمطرب الجميل قحطان العطار. أطوف بين القبور وأردد منها المقطع الذي يقول (واسمع صدى يناديني بأسف خان العزيز وياك). ربما كان حضور هذه الأغنية وهذا المقطع بالذات بسبب سحابة الحزن التي تستوطنه.
 
مثل هذه الأغنية، تربت ذائقتنا ونحن صغار على أغانٍ ومقدمات موسيقية لمسلسلات عظيمة عراقية وعربية. كان الإبداع هو السمة الملازمة لها من خلال مناسبة الأغنية أو المقدمة الموسيقية لموضوعة المسلسلات وثيمتها. أتذكر مثلا مقدمة مسلسل (النسر وعيون المدينة) والتي أظن أنها من تأليف صبري الرماحي بإيقاعها السريع، الذي يشبه الدوامة لتناسب بهذا إيقاع الأحداث المتسارعة للمسلسل. أما مقدمة مسلسل (الأماني الضالة) فكانت لوحدها إبداعاً لايتكرر. الكلمات كانت للشاعر حسن الخزاعي، واللحن والغناء كان للراحل فتح الله أحمد الذي صنع لحناً فريدا وغناها بصوته الشجي. وكلمات الأغنية طبعاً تتحدث نزعات الخير والشر والقناعة والطمع والجشع والأمل المفقود والركض خلف سراب الأمنيات. فكانت الأغنية بحق تحفةً فنية تخلدت مع المسلسل. أما مقدمة مسلسل (نادية) فكانت الأغنية التي صارت تتردد على ألسن الشباب حينها. لأنها أولاً تتحدث عن قصة حب عنيفة، وثانياً لأنها جاءت بصوت كاظم الساهر الذي كان نجمه قد بدأ بالسطوع والصعود حينها.
وحين نستذكر مسلسل (ذئاب الليل) تحضر مقدمته الموسيقية، التي تتوافق تماماً مع أجواء المطاردات البوليسية التي بنيت عليها أحداث المسلسل.
أما أغاني مقدمات المسلسلات العربية، فإنني أذكر منها مقدمة مسلسل (اوراق الورد) الذي مثلته وردة الجزائرية. الاغنية كانت بلحن بليغ حمدي. وتناسبت مع موضوع المسلسل الذي يتحدث عن الاطفال الذين يقعون ضحايا الانفصال بين الوالدين. فكانت اوراق الورد هي المعادل الموضوعي للأطفال. بما يعني أن الأغنية كان لها هدف يمكن أن توصله وتنبه المجتمع عليه. وليس مثل الأغنية شيء يلامس مشاعر الناس.
كذلك استذكر هنا اغنية المقدمة لمسلسل (الطاحونة) التي غناها سمير الاسكندراني. تتحدث الأغنية عن التشابه بين قلب الطاحونة الحجري وقلب الزمن (وهنا الامر مجازي طبعا) وكيف ان الزمن يطحن الناس لتتبين هنا معادنهم واشكالهم والوانهم. فمنهم من يكون جيداً ومنهم من يكون سيئاً.
أما أغنية مسلسل (ليالي الحلمية) التي غناها بصوته الرخيم محمد الحلو وكتب كلماتها الشاعر سيد حجاب ولحنها ميشيل المصري، فهي بحق كانت وما زالت علامة بارزة في تاريخ أغاني مقدمات المسلسلات. تكاملت فيها عناصر الإبداع من جميع أركانه. فصوت محمد الحلو الشجي يتوافق تماماً مع طبيعة كلمات الأغنية ولحنها وموضوعاتها الحزينة التي تتوجت في الآخر بالفرح.
إن الكتابة في موضوع كبير مثل أغاني ومقدمات المسلسلات الموسيقية تحتاج إلى صفحات خاصة في كتاب. والمقام هنا لا يتسع لذكرها جميعاً. لكن المهم أننا نستذكرها ونستعيدها ولو بأطراف منها. لأنَّ هذه الأعمال الإبداعية كانت تمثل إبداعاً يوازي إبداع التمثيل الذي نفتقده اليوم في العراق بالذات، بسبب سيادة نمط من الذائقة التي لا تريد الغوص في العمق الفلسفي، بل تبحث عن السهل المتاح بكل ما للأسف من معنى.