أ.د. مها خيربك ناصر
تشير عملية رصد لحركية الفكر العربيّ إلى وجود محطات رئيسة، كان له دورٌ في خلق مسارات نهضويّة فاعلة، انطلقت من الواقع الكمونيّ/ الساكن المحرّض على القدح، والتوليد، والتغيير، والتطوير، فارتبطت التحوّلات بطبيعة البيئة الفكريّة التي تشي بالقبول والرفض، في اللحظة عينها، وتختزل كمونًا قابلاً للقدح والإضاءة، ولذلك يمكن القول إن النهضة العربيّة الإسلاميّة لم تأتِ من فراغ، بل كانت لها ظروف ساعدت على التقاط علامات النهضة، وتوظيفها بما يتوافق وسمات الفكر الجديد.
أحدث الفكر الجديد نهضة اجتماعيّة وحضاريّة، هيّأت لها ظروف وأحداث ومقوّمات شحنت النفوس رغبةً في تخطي الواقع وتجاوزه، فتمايزت تلك الحركة النهضوية بفعل حركيّ يهدف إلى حماية الجوهر، بقدر ما يسعى إلى تحطيم الأنساق غير القابلة للاستمرار؛ ولذلك احترمت جوهر تعاليم اليهودية والمسيحية، ولم تُهمّش العادات والتقاليد غير المناقضة مبادئ الدعوة.
حمى الفكر الجديد القوانين اللغويّة القادرة على حماية التراث، وعلى ضمان سلامة المنتج المعرفيّ، وجعل من اللغة العربيّة فعلاً حضاريًّا كونيًّا أسّست له أفكار ابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم والفارابي والغزالي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم من العلماء العرب الذين كانوا وما يزالون منارات يسترشد بها مفكرو العالم، فكان لهؤلاء العلماء فضل السبق بانتسابهم إلى فضاء حضاريّ كونيّ غير مُلوّث بالطائفية والمذهبية والعرقيّة، وفضل التأسيس لمركزيّات معرفيّة أنتجت فضاءات جديدة، ولّدت بدورها مركزيات لمعارف أكثر تطورًا، وجدةً.
تفرض الحقائق السابق ذكرها عددًا من الأسئلة، ربما كان من أهمها ما يرتبط بالنهضة العربيّة، فما الذي قدّمه كُتّاب النهضة الأولى والثانيّة على مستوى التأسيس؟ هل ابتكروا مركزيات قادرة على التوليد والإشعاع، ليكون الانطلاق منها نحو مستقبل عربيّ فاعل وغير منفعل..؟
إذا كانت النهضة تعقب القعود والسكون وتتمظهر بدعوات إلى التغيير والتطوير والتحديث، فلقد حقّق الأفغانيّ والكواكبيّ والطهطاويّ وعبده ويكن والبستاني... وغيرهم حضورًا نهضويًّا، غير أنّهم لم يؤسسوا لمركزيات علميّة وحضاريّة ، لأنّ الأفكار والمفاهيم والطروحات التي فرضتها ظروف، لا تعيد نفسها ولا يُقاس عليها، لم تؤدِ وظيفة خلق مصحوبة بدعوة إلى التغيير والتطوير والخلق والابتكار، بل كان التعاطي معها على أنّها فيض حالة الامتلاء والاكتمال، وصارت الأنموذج الأسمى للثقافة العربيّة الجاهزة والمعلّبة.
إنّ الكلام على غياب فاعليّة التأسيس لا يقلّل من أهمية نضال أعلام النهضة الذين قرؤوا الواقع العربيّ بعين ناقدة، ووصّفوا أمراضه، ودعوا إلى التحرّر من التعصب والتزمّت، وإلى إعطاء المرأة حقّها، غير أنّ هذه الدعوات ارتبطت بظروف اجتماعيّة، وسياسيّة، ووطنيّة محدّدة، وكانت متأثرة بالفكر الغربيّ، فاقتصر التغيير على الشكل، وقلّما تناولت الدعوات النهضويّة مأساة العقل العربيّ، لذلك تضاعفت التراكمات السالبة وصارت المأساة قدرًا مرغوبًا فيه، وتلاشت المركزيّات النهضويّة الفاعلة. فهل من يبشّر بنهضة عربيّة كونيّة بلغة عربيّة؟.