خان ضاري.. شاهدٌ على وحدة الصَّف العراقي

منصة 2021/10/21
...

 بغداد: محمد اسماعيل
 تصوير: نهاد العزاوي
اختار الشيخ ضاري بن محمود الزوبعي الشمري، الولاء الوطني على حساب الانتماء الفئوي، عندما ساومه الحاكم الإنكليزي الكولونيل ليتشمان، طالباً منه التخلي عن مؤازرة ثورة 20 حزيران 1920 تحت ذريعة طائفية ومناطقية، بوصفه شيخاً من شيوخ الغربيَّة ولا مصلحة لقبيلته.. شمر ، بالتعاون مع الجنوب.
طلبٌ تصدى له الشيخ ضاري بصرامة استفزت ليتشمان فأسمعه كلاماً نابياً ردَّ عليه بسيفه وبندقيته ولديه واحد وعشرون رجلاً جاء بهم معه، حيث تم اللقاء في خان النقطة.. بين بغداد والفلوجة، الذي زرناه ضحىً نصغي لأنفاس ليتشمان تغادر بدنه والعراقيون يحتفظون بوحدتهم الوطنية.. لا تفلح معهم سياسة «فرق تسد» الخائبة.
 
لبن فرشي
يترامي في المدى خان مهلهل، وسط معامل وبيوت ودوائر حكومية، على واجهته قطعة قماش.. لافتة.. تهرأ الزمن، متقادماً على نسيجها الممزق: «خان ضاري».
تهفهف الريح باللافتة فوق بوابة خشبية ضخمة، لم تخفِ «البوية» تآكلها جراء الإهمال، مغلقة بقطعة حديد اتكأت عليها من الداخل؛ كي لا ينفذ إليها أحد سوى الكلاب السائبة والطيور والمتشردين..
رُصَ السياجُ الخارجيُ للخانِ بطابوقٍ من نوع «اللِبِن الفرشي» تقطع جوانبه المحطمة ثلاثة أبواب.. أحدها ضمن أصل البناء Original واثنان مستحدثان.
الفرشي مثبتٌ بجص وبورك.. مملوج – مطلسم، خارجياً، ومن الداخل تقطعه إيوانات تنفذ منها فتحات لفوهات البنادق.. مزاغل قتالية تكفي لاستقرار “تفاك” يقاتل مسيطراً..
سُمْكُ السياج الخارجي متر تقريباً، يحيطُ دونمَ أرضٍ نبت منها شوك بارتفاع يتيه فيه رجل... تلوح عند نهاية الخان غرف وإيوانات ذات مداخل مقوسة.
فراشة وحمامة طارتا محلقتين أمامنا ونحن نقطع طريقاً نيسمياً خطه تعاقب الأقدام.. خبباً محفوفاً بالشوك البالغ هامتنا، متحاشين بئراً تتوسط ساحة الخان.. تحرسها أفعى ابتعدنا عنها خائفين فلم تلاحقنا.
 
منافذ قوسيَّة
منافذ المضيف قوسية من دون أبواب.. مشرعة وسقفها على شكل أهلةٍ ونجومٍ.. مرفوع على عمد من الطابوق الفرشي.. اللِبِن.. نفسه.. منذ مئة وخمسين عاماً وما زال متيناً برغم الإهمال.
ثمانية أعمدة، مربعة الأضلاع بقياس تسعين سنتيمتراً ترتفع الى مترين ونصف المتر، تشج احدوداب السقف الى السطح متوارية في الفضاء.
ما زلنا في المضيف، تحيطنا عشر كوى نافذة وثلاثة أبواب، من أصل التصميم الأساس، منها واحدة تطل على حرملك.. خاص بالنساء.
سقف الحرملك من باريات قصبية، تتكئ الى أعمدة خشبية، وله منفذان خارجيان يقللان احتكاك الاناث بالذكور.. أرضيتا المضيف والحرملك من الكاشي الفرشي.. اللبن أيضاً.
ألحقت بنهاية الخان أبنية حديثة من الإسمنت الذي لم يكن شائع الاستعمال، أوان بناء خان ضاري.
 
زحام أشباح
حاولنا الخروج من الباب الجانبي للمضيف، وتعذر علينا... بسبب اشتباك الشوك أعلى من قامة رجل، يمحو الأرض أمام العين..، نسير متعثرين بالألم؛ فكلما قطعنا خطوة شجت أقدامنا إبرٌ نباتية صلبة.
سحقنا الشوك سائرين وتلطخت جوانب حذائي الصيفية المفتوحة.. شباكاً، بفضلات كائنات هلاميَّة تقطن المكان المكتظ بأشباح تملأ خيالي رعباً، بينما الأفعى ترابط عند البئر تتأملنا متوجسة ونحن مذعورون.. ليس منها فقط، إنما من عموم المكان المسكون بهواجس... ربما أسهلها شيطان ليتشمان ومرافقه اللذين قتلهما ضاري كجزءٍ من ثورة العشرين.
 
وجود عابث
بقايا فضلات تواجد عابث بدا لي دائم اقتحام المكان.. سراً وعلناً.. نفايات وأزبال تنتهي بمصلى ذي محراب ومصطبة.. المحراب يشير الى جهة القبلة والمصطبة ترتب عليها سجادات الصلاة بانتظام.
قال فاضل: «جريمة هكذا مكان يترك ولا يستثمر سياحياً؛ للترفيه عن الناس ودعم الموازنة العامة و...» سقف المصلى يتكئ على عمودين مستطيلي الجذعين 1,30 متر × 1 متر بارتفاع 2,5 متر، ينتهي بمساند قوسية وكوى غير نافذة.
عند الخروج من المصلى.. عوداً الى ساحة الخان، تلمح العين درجاً صفت أحجاره بتتابع عمودي، ومع تآكل ما يمسكها من جص أبيض، بدت كأسنان مشط في شعر سيدة عجوز.
ارتقيته صاعداً الى السطح الرئيس.. محاطاً بسطوح ثانوية تعانق السماء.. وقفت أتأمل شاحنات تخب على إسفلت الشارع العام وعربات الأكل السريع فوق الأرصفة وسابلة الطريق والبيوت الخلفية والمعامل المحيطة.
نزلت الى تسع غرف تحيط بالبوابة الخارجية من الداخل.. سبع من الجانب الأيسر واثنتان من اليمين إحداهما يقطع جدارها من جهة البوابة قوس أمني يعطي مرونة في حركة حراس الخان أوان مجده قبل أنْ يأفل، متحولاً الى مكب نفايات ومأوى للكلاب السائبة والمشردين. 
نظام صرف صحي، يتوزع بين انبوب للفضلات البشرية والمياه الثقيلة، وآخر لبقايا المطابخ، كي لا يختلطان... فتتنجس البركة نحساً!
 
محطة استراحة
قال مدير آثار أبو غريب.. مراقب عكركوف يوسف مطلب عبد الله: «بنى الشيخ ضاري خانه، محطة استراحة مجانية للمسافرين.. عابري السبيل، أكلاً وشرباً ومناماً وإسطبلاً ذا علفٍ وسقيٍ للخيل.. خان ضاري حلقة وصل بين بغداد والرمادي» مؤكداً: «تعود ملكيته الى ورثة الشيخ ضاري بوضع يد الدولة عليه كموقع أثري منشور في جريدة الوقائع العراقية».
كشف: «الترميم يجب أنْ يتم على نفقة الورثة بإشراف وزارة الثقافة والسياحة والآثار، ضمن المواصفات التي تحفظ للموقع صفته الأثرية»، مرجحاً: «اليونسكو لم تتدخل، نحتاج منها ترميم زقورة عكركوف بإعادة تأهيلها من القاع الى القمة، فهي مهملة منذ عشرات السنين، وإعادة صيانة الزقورة ومنطقة المعابد التي تآكلت بحكم تقادم السنين.. بحاجة لحدائق وإنارة ومياه شرب وإسالة ماء ومولد كهربائي وتأهيل السياج الخارجي وتوفير مضخات وأشجار معمرة وأكشاك للأكلات السريعة ونصب لوحات دلالة على الطرق، بدءاً من الخط السريع الى الموقع، والتنسيق مع هيئة الاستثمار لخلق مشاريع تمويل لكل ما أسلفنا من خلال القطاع الخاص كي لا يثقل كاهل الدولة، إنما يجيؤها مورد من دون إنفاق أي مبلغ».
 
متحف تراثي
يحلم يوسف مطلب عبد الله، بمتحف تراثي، باستثمار تاريخ المكان: «في بالي هذا الخان إذا الدولة أو أهله أقدموا على تحويله الى متحف أثري بإشرافنا، سيكون خير سارد يروي قصة ثورة العشرين معرفاً بالعشائر المشاركة وتتوالى التفاصيل.. أجنحة للأسلحة والثياب وتماثيل شمعية لشعلان أبو الجون وأبرز رجال عشيرة الظوالم مشعلة فتيل الثورة والملتفين حولها.. محمود الحفيد وجيشه وضاري محمود الزوبعي ومرجعية النجف وشيخ العزة حبيب الخيزران ومحمد سعيد الحبوبي والآخرين وسبتايتل ومجسم حي يعرض تفاصيل الثورة ومكتبة صورية وسينمائية وملفات ودراسات وسواها من تقنيات توضيحية».
خان فالت
ألمح مدير آثار أبو غريب، الى أنَّ «الخان فلت من بطش شفلات الانكليز.. لم يهدموه، بعد مقتل الكولونيل ليتشمان كي لا يستفزوا غضب الأهالي»، لافتاً: «لذلك امتصوا الصدمة خاصة أنَّ الثورة ضعضعت هيبة الاحتلال، ولم يشاؤوا أنْ يزيدوا الأزمة تشنجاً، لا سيما أنه محاط ببيوت عشيرة زوبع وعموم شمر والعشائر المتحالفة معها، التي أسهمت بقطع طريق بغداد – سامراء، حائلة دون وصول الإمدادات للجيش الانكليزي أثناء تصديه لعشائر الجنوب، في أروع وحدة وطنية تسامت عن الطائفية».معلناً: «الحادث أكسب الخان شهرة، وقد أصبح موضع فخر لنا ولأبناء الرافدين قاطبة.. رمزاً وطنياً ما زال حياً في وجدان المخلصين من ألوان الطيف العراقي».
لفت يوسف مطلب عبد الله، الى أنَّ «ملكية الخان تعود الى خميس الضاري، وكتبت طلباً بالصيانة والتأهيل، رفعته الى رؤسائي في وزارة الثقافة وأنتظر الإجابة من إدارة التحريات في دائرة الآثار والتراث» مفيداً: «نحتاج عقولاً سياحية ومستثمرين، نعيد من خلالهم الحياة الى الخان ونشغله بفعاليات تراثية جاذبة للسياحة.. نتمنى على جريدة «الصباح» تسليط الضوء بشكل مستمر والتذكير بمعاناة المكان، وأنْ يدرج على لائحة التراث العالمي، ومفاتحة وزارة التربية لتنظيم سفرات مدرسية إليه، وتنظيم مهرجانات للشعر والخطابة والمسرح والغناء فيه، من قبل وزارات الدولة».