الآخرون والجحيم

منصة 2021/10/31
...

ميادة سفر
 
لا بدّ أنّ الكثيرين يعرفون تلك العبارة للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ويحملها آخرون شعاراً لحياتهم إنْ هم قرروا العزلة والانزواء بعيداً عن المجتمع الذي ألحق بهم ضرراً ورأوا في الآخر جحيماً يجب الابتعاد عنه، تلك العبارة التي وردت في مسرحية (الأبواب المقفلة) تحكي عن ثلاثة أشخاص رجل وامرأتين وجدوا أنفسهم في مكان ما تراءى لهم أنه الجحيم، ينتظرون شيئاً لا يأتي، وحين بدأوا التحدث في ما بينهم عن الذنوب التي اقترفها كل منهم، وأخذت نظرة كل واحد منهم تتغلغل في الآخر، وتعبث في أسراره، وتنبش ماضيه، ولا مجال للخروج من حيث هم، عندها يتحقق هؤلاء أنّ الجحيم ليس ذاك المكان الذي هم فيه بل هو كما وصفه غارسان أحد أبطال المسرحيَّة حين صرخ: «لا حاجة للشباك، فالجحيم هم الآخرون».
تحيلنا تلك العبارة إلى حياتنا والمجتمع الذي نعيش فيه، إلى الأشخاص الذين نتعامل معهم، أليست حياتنا أشبه بالمسرحيَّة، تلك الاستعارة التي أخذ بها عالم الاجتماع إرفنغ غوفمان الذي يرى أننا في الحياة نتقمص شخصيتين ونحمل معنا ذاتين، الأولى نقدمها على خشبة المسرح أمام الجمهور الذي هو الآخرون الذين نخشاهم، والأخرى الحقيقيَّة نحتفظ بها لأنفسنا، وقلة من الأفراد يدركون ذاتنا الحقيقة، لا لشيء إلا لأننا نخاف من الآخر، من عيونه ونظرته التي تتحول إلى سهامٍ خارقة، ومن ألسنتهم التي تنتظر أية هفوة أو ذلة لتنفث ناراً حارقة لا تبقي ولا تذر، فلا يكون أمامنا من سبيل إلا الظهور بمظهر يرضي المجتمع الذي نحن فيه في محاولة لنقي أنفسنا من قلقٍ نفسي ووجع مجتمعي قد يدمر حياتنا.
قد تتعارض مقولة سارتر في مسرحيته مع عبارة «الإنسان كائن اجتماعي» حسب نظرية أرسطو الذي عدَّ أنّ الطبيعة الإنسانيَّة لا تكتمل إلا بانتماء الإنسان إلى مجتمع، وأنّ قدره أنْ يحيا ضمن جماعة يتفاعل معها وبنفعل بها، وهذا سيقودنا - إنْ أردنا التوفيق بين العبارتين- إلى الحرية، فهي تحقق آدميتنا وتنأى بنا عن الخوف من الآخر، وتحقق سمتنا الأساسيَّة كوننا كائنات اجتماعيَّة بطبعها، إذ بقدر ما يتمتع الإنسان بحريته يكون قادراً على إظهار ذاته الحقيقيَّة التي اعتاد إخفاءها خوفاً من نظرة المجتمع له، أو رعباً من سلطة سياسيَّة، أو هرباً من مساءلة فكريَّة وحتى دينيَّة، أنْ تتمتع بحريتك الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة يعني أنْ تعبر عن ذاتك وأفكارك وتعلن رأيك وتشهر معتقدك الديني والأيديولوجي دونما خوف، عندها لن يغدو الآخرون جحيماً بل تتكامل الأنا مع الآخر في مكان يغدو أفضل إنْ احترم كل إنسان خصوصيَّة الغير وحريته.
حتى نصل إلى تلك النتيجة التي قد يراها البعض طوباويَّة جدير بنا أنْ نبدأ بأنفسنا، ألا نلاحق الآخرين في أعمالهم وأقوالهم، ألا نتربص بهم وننتهز كل كلمة وحركة لننقض عليهم، عندها يحق لنا أنْ نطالب بمثل ما نحن عليه، ونأمل بحياة بعيدة عن الخوف والتوتر والقلق.