هدية حسين
في روايته (التباس الأحاسيس) يلج ستيفان زفايغ منطقة معتمة داخل النفس البشرية، عن حالة لم تكن مباحة علناً في الزمن الذي عاش فيه وهي المثلية، والغريب أنه اختار رجل عِلم بدرجة بروفسور ليكون بطل روايته بالتوازي مع تلميذه رولاند، ويكشف لنا الشخصية المختفية وراء الاتزان الزائف الذي يبدو عليه، عندما يرتدي هذا البروفسور قناعاً صارم الملامح فيكتسب بمرور الوقت ملامح وشخصية لا تشبهه ويعيش بشخصيتين مختلفتين، واحدة أمام طلبته وأخرى مع نفسه، إنه يمتلك من سحر الشخصية وحلاوة الصوت ما جعل تلاميذه يفتتنون به، بل ويعشقه رولاند الى الحد الذي تتلبسه شخصية أستاذه من دون أنْ يعلم خفاياه ويسعى ليكون أقرب المقربين إليه، وبعد وقتٍ ليس ببعيد ستنعقد صداقة بين الاثنين فتنكشف لنا أسرار شخصية البروفسور الغامضة والمغايرة لشخصيته داخل أروقة الجامعة، لكن ذلك الكشف سيأتي في وقت متأخر يكون فيه رولاند قد تغير.
تبدأ الرواية وتنتهي بضمير المتكلم، حيث رولاند وهو أستاذ جامعي يُفاجأ بزملائه الأساتذة وطلبته بتكريمه لمناسبة بلوغه الستين من العمر، كتاب التكريم عبارة عن مجلد جمعوا فيه أهم الدراسات والبحوث التي قام بها طيلة سنوات عمله، هذا الكتاب سيعيد الأستاذ الى مرحلة شبابه في رحلة استرجاعية يكشف فيها حياته التي لا يعرفها الزملاء ولا الطلبة، ومن خلالها ستنكشف شخصية البروفسور الذي درّسه في الجامعة، ذلك الرجل الذي فُتن به تلاميذه وعشقه الأستاذ الستيني في بداية شبابه يوم تلقى أولى المحاضرات على يديه، إذ وجد نفسه أمام رجل يمتلك صوتاً رخيماً يجعل طلبته صامتين ومأخوذين بسحر نبراته وطريقته في الإلقاء، وكيف شاءت الظروف لهذا الطالب القادم من مدينة أخرى بإصرار من أبيه أن يطّلع على أسرار البروفسور، وسيدخل القارىء ذلك البيت، بيت البروفسور، لتنكشف أمامه الأسرار وطريقة عيش المعشوق الساحر أمام طلبته والمهموم الصامت في بيته.
قبل ذلك سيحكي لنا رولاند عن حياته، وكيف زج به والده لدراسة العلوم التي يكرهها، ويحكي عن مغامرته النسائية الأخيرة التي كانت سبباً في إبعاده عن بيت الأسرة والدراسة في مدينة لم يسبق له أنْ زارها من قبل، ومن أول محاضرة كان مشدوداً لأستاذه ومأخوذاً بسحر صوته، وسيصبح سحر هذا الصوت مدخلاً لعلاقة استمرت طيلة سنوات الجامعة، محفوفة بالكثير من التباس المشاعر بين البروفسور وتلميذه الذي سكن في غرفة قريبة من سكن أستاذه ليحظى بصداقته، يأخذ ستيفان زفايغ قرّاءه على مهل في دخول غابة الأحاسيس التي تشتبك كلما توغلنا في الرواية، ويلقي الضوء على الحياة الثقافية لانكلترا في تلك الفترة، بشعرائها وكتّابها ومسارحها وبكل تاريخها الأدبي والفني في وقت كانت فيه القوة البابوية مهددة بالانهيار، فكانت اللغة الجديدة هي خير من يعبّر عن الواقع، لأنَّ وقائع التاريخ تغيرت وهي بحاجة الى لغة وإمكانيات جديدة بعد كل ذلك التوحش وتلك الصراعات التي كانت سائدة في البلاد التي أنهكتها عصابات الخطف وتفشي الجريمة والسبي والعبودية.
جاءت الفرصة لرولاند سريعاً ليعقد صداقة مع البروفسور، فبعد انتهاء المحاضرة كان قريباً منه ليعرف البروفسور أنَّ طالبه الجديد بلا سكن فأخذه ليشير عليه بالمكان الذي سيصبح سكن الطالب وسيشهد ذلك المكان مع مكان البروفسور الكثير من أحداث الرواية، وقد دعا البروفسور تلميذه لزيارته في منزله، وفي المنزل ستبدأ أولى التباسات الأحاسيس عندما يحدثنا رولاند عما شاهده ولمسه، حيث جمعته مائدة الطعام مع أستاذه وزوجته، وقد تغيرت شخصية الأستاذ من ذلك السحر والمرح الى رجل صامت ومهموم، فكانت الزوجة هي التي تتحدث مع رولاند كأنَّ زوجها غير موجود، وهذا ما سيحدث في اللقاءات التالية، في حين يعود البروفسور الى سحره وتدفقه الحيوي بين طلبته، ومع ذلك سيتعلم رولاند من أستاذه قيمة الوقت والبحث والقراءة بشغف وتحفيز القدرات، لكنَّ الطالب المفتون لاحظ أيضاً أن ثمة محاضرات أخرى ينقطع فيها فجأة ذلك السحر قبل أنْ يعود بعد معاناة من الأستاذ كما لو أنه ينتشل نفسه من هوَّة عميقة داهمته وأسقطته فتصدى لها وقام منها مستعيداً شخصيته الساحرة، وفي بعض الأيام يغيب عن المحاضرة، وحين يذهب رولاند للسؤال عنه في بيته تخبره الزوجة ببرود أنه غير موجود، ويبدو أنَّ الزوجة قد تعودت على مثل هذه الغيابات، وسيعرف أنَّ الزوج ليست له صداقات ولا علاقات إلا مع طلبته، فما هو سر هذا الرجل الغامض وما سر غياباته التي تستمر ثلاثة أو أربعة أيام، والى أين يذهب؟
سترتبط الزوجة بعلاقة صداقة مع رولاند، صداقة عادية أول الأمر، تتحول بمرور الوقت الى علاقة جسدية وتحذره من زوجها من دون أنْ تفصح عن السبب، ورولاند يتبلبل من سلوك أستاذه الذي يعامله مرة بود ومرة أخرى بخشونة تصل حد الطرد من المنزل، وتتواتر الأحداث لتشهد الكثير من الالتباسات حتى يوصلنا ستيفان زفايغ الى نقطة الكشف عن السر المخبوء وراء شخصية البروفسور عندما يجعله قبل نهاية الرواية يعترف مرغماً لتلميذه بالهم الذي يحمله طيلة سنوات، وهو ميوله الشاذة التي استمر يمارسها بسرية تامة بعيداً عن طلبته، وحينما تداهمه أثناء المحاضرات يقاوم نفسه بشدة، وعند عجزه يترك المحاضرة ويخرج، تحولات لم تجد لها تفسيراً أول الأمر عند رولاند لكنها بعد ذلك الاعتراف أدرك لماذا يطرده أحياناً، ليختفي عن البيت فيذهب الى مدينة أخرى لا تعرفه ويمارس نزواته مع الشاذين في الأماكن الرخيصة، لقد وقع الأستاذ في حب تلميذه وهو لا يريد أنْ يلوثه، بعد ذلك الاعتراف سيعيش رولاند ممزقاً، وستتداخل شخصيته حتى بلوغه الستين بشخصية أستاذه ويسمع ذلك الصوت الساحر متمثلاً في صوته.
توفي ستيفان زفايج منتحراً في العام 1942، لم تكن المِثْلية وقتها مباحة، أتراه لو كان يعيش في زمننا هذا حيث أبيحت المثلية في كثير من الدول الأوروبية وأصبحت أمراً عادياً بقوانين ثبّتت فيها حقوق المثليين، هل سيكتب رواية التباس الأحاسيس بالشكل الذي جاءت فيه؟