داود عبد السيد.. فيلسوف السينما العربيَّة
منصة
2021/10/31
+A
-A
غفران حداد
كثير من المخرجين المصريين تأثروا بسينما المؤلف والمخرج التي بدأت في فرنسا خلال عقد الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، أمثال محمد خان، رأفت الميهي، عاطف الطيب، خيري بشارة وداود عيد السيد، والأخير تميّز عن الكثير من المخرجين من أبناء جيله فهو عندما أصبح علامة من علامات السينما المصرية جاء ذلك ليس من فراغ بل بما قدم من أفلام
طرح من خلالها رؤى شديدة الخصوصيَّة وعلى الرغم من قلة أفلامه إلا أنها تركت بصمة واضحة من الصورة البصرية من ناحية، والرؤى الفلسفية والأفكار التي يقدمها على لسان أبطال أفلامه من ناحية أخرى.
داود عبد السّيد قارئ ومتابع جيد للإنتاج الروائي ويختار منه أيضا لأنه يدرك قيمة الأدب الروائي سينمائياً.
أول أفلامه التي لفت الأنظار بها كان فيلم «الصعاليك» أنتج في العام 1985، قصة الفيلم مأخوذة عن فيلم «بورسالينو لجاك ديري» وكتب السيناريو والحوار المخرج عبد السّيد بنفسه.
حيث قدم شخصية مرسي (نور الشريف) وصلاح (محمود عبد العزيز) بأسلوب يثير الدهشة وهما يعيشان حياة الصعلكة في الإسكندرية، ويتزوج مرسي من صفية (يسرا) لتستمر الأحداث ويصدم مرسي شاباً بسيارته ويعاقب بالسجن على هذه الحادثة فيتكفل صلاح بزوجته وابنه وبعد انتهاء عقوبته في السجن يعمل مع صلاح في التسويق والاتجار بالمخدرات ويصبحان من الأثرياء.
كانت أفلام داود عبد السّيد تنال الجوائز المحلية والدولية ليس من فراغ فهو يغوص في أعماق شخصيات أفلامه ودائماً تبدو أنها متمردة على واقعها الشخصي وتهزم اليأس والإحباط وتنتصر لأجل الحياة وأحلامها البسيطة.
لقد كتب جميع أفلامه بنفسه عدا فيلم «سارق الفرح»، «الكيت كات»، الذي كتب لهما السيناريو وهما عن رواية «مالك الحزين» للروائي إبراهيم أصلان، وكانت قصة «أرص الأحلام» من تأليف هاني فوزي، وقصة «سارق الفرح» لخيري شلبي.
كان داود عبد السيد قد عرف بقلة أعماله فبعد أنْ قدم فيلمه الثاني «الكيت كات»1991، لم يقدم طوال خمسة وثلاثين وعاماً سوى تسعة أفلام، كان يركز على النوع وليس الكم وكانت لديه رؤية متعلقة في توظيف لغة السينما فهو لم يهتم فقط بقوة النص وتكثيف اللغة المكتوبة في حوارات أفلامه بل اهتم بالصورة والموسيقى التصويريَّة، ما شكّل فرادة فنيَّة مغايرة وجعل جمهوره العربي يدرك من هو مخرج العمل إذا لم يذكر اسمه في تتر العمل، بمجرد التعرف على العلاقات الإنسانية التي تتسم بها شخصياته وبمجرد التعرف أيضا على الدلالات والمفردات والرموز المشفرة التي ينقلها أداء أبطاله.
وإذا نتوقف عند الأفلام الأربعة الأخيرة للمخرج داود عبد السّيد وهي: «أرض الخوف» (2000)، «مواطن ومخبر وحرامي» (2001)، «رسائل البحر» (2010)، «قدرات غير عادية» (2014)، سنلاحظ محاولاته في تقديم فكرة عمق «الرحلة» لدى شخصياته ويكون هدف كل شخصية البحث عن حياة أكثر أمناً وألفة.
في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» على سبيل المثال كانت حياة الشاب سليم (خالد ابو النجا) تسير من السكون والملل إلى حياة أكثر دفئاً، وحين نتعرف بالمخبر فتحي عبد الغفور (صلاح عبد الله) والحرامي شريف المرجوشي (شعبان عبد الرحيم) وحتى الخادمة (هند صبري) ترى أنّض حياة سليم قد تحولت إلى حياة أخرى أكثر إيجابية بعيداً عن مشاعر الحقد والكره والأنانية.
هذه المعاني الإنسانية كان يحرص على تقديمها بقوة في العديد من أفلامه السينمائيَّة.
حين بدأ عبد السّيد (23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1946) حياته كمساعد مخرج لبعض الأفلام مثل فيلم (الأرض) ليوسف شاهين، (الرجل الذي فقد ظله) لكمال الشيخ، (أوهام الحب) لممدوح شكري لكنه ترك عمل المساعد فهو يراه عملاً إدارياً يتطلب منه التركيز الذي يفتقده وقد صرح أكثر من مرة أنه غير قادر على التركيز إلا في ما يهمه ويعشقه، لذا حمل الكاميرا لرصد الحزن في عيون الناس وبدأ حياته بإخراج الأفلام التسجيليَّة وكان أهمها فيلم (وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم - 1976)، (العمل في الحقل - 1979)، (عن الناس والأنبياء والفنانين - 1980) وهذا الاحتكاك المباشر بالناس جعله يدخل لعالم الفيلم السينمائي الروائي الذي عرفه الجمهور المصري والعربي من خلاله وترك بصمة واضحة في ذاكرة جيله والأجيال اللاحقة، كيف لا وشخصيات أفلام عبد السّيد تحمل معاني العلاقات الإنسانيَّة التي يعيشها الإنسان من قضايا وصراع مع الحياة والحب والطبيعة والتصوّف والموسيقى.
بل حتى أسماء أبطال أفلامه فيها معاني الحياة والدعوة إلى الحب وهي لم تأت مصادفة بكل تأكيد خاصة اسمي (حياة) و(يحيى).
الشاب «يحيى» (خالد ابو النجا) في فيلم «قدرات غير عادية» ويحيى «الطبيب (آسر ياسين) في فيلم «رسائل البحر» الذي تخرج في كلية الطب ويعاني من اضطرابات في نطق الكلام ويتعرض للسخرية والاستهزاء من قبل زملائه وأصدقائه في الجامعة ليقرر ترك دراسة الطب ويعمل في ما بعد صياد سمك ليلتقي بعدها بـ«نورا» (بسمة) الفتاة التي تكون بالنسبة له الحياة الجديدة.
أيضا يقدم لنا داود عبد السيد، الضابط «يحيى» (أحمد زكي) في فيلم «أرض الخوف» عام 1999، الذي تسند إليه مهمة التحول إلى حياة الإجرام والمخربين بعد فصله رسميا من جهاز الشرطة بتهمة تعاطي الرشوة، ليقوم في ما بعد بإرسال تقارير سرية عن تفاصيل هذا العالم موقعة باسمه الحركي «آدم».
أيضا قدم عبد السّيد اسم شخصية «حياة» لهند صبري في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» و«حياة» لنجلاء بدر في فيلم (قدرات غير عادية).
وبعد كل رموز الحب والحياة التي يتسم بها أبطال داود عبد السيد لم ينس أنْ يقدم لنا رمزاً آخر للحياة من خلال المكان الذي يعدُّ الفن البصري العام للسينما وقدم لنا في الكثير من أعماله أهمية المكان أهمها «نهر النيل» و«مدينة الإسكندرية»، البحر المتوسط، الأحياء القاهرية، سطوح المنازل في الأحياء الشعبية، وكان لا يلجأ للمكان الضيق ومحدود المساحة مثل «المنزل» إلا للضرورة جداً.
سيرة المخرج داود عبد السّيد طويلة بين السينما والأدب مليئة بالإبداع والتشويق والجمالية، نجح في إقناع بعض المشاهدين كيف نروض قسوة الحياة سواء بالغناء أو الضحك أو العمل وأنْ نبحث عن ذواتنا، عن إنسانيتنا التي لم نكتشفها بعد، بسبب الأزمات والمآزق التي تحيط بنا في هذه الحياة.
الرؤى الفلسفية التي تحملها شخصيات أفلام داود عبد السّيد عميقة تحوي أفكاراً تدعو للتحرر، سينما تسبح عكس تيار الأفلام التجارية، تتحدث عن معاناة المواطنين البسطاء والصعاليك، المثقف الخائن، والفلاحين والعمال وقضايا المرأة ومشكلاتها في الحياة.
هذه هي ببساطة شخصيات عبد السيّد التي قدمها لنا بدون رتوش وكل واحدة منها كانت تعبر عن فكرة «الرحلة» رغم أنه ليست جميع هذه «الرحلات» كانت ناجحة في مشوارها ولم تجد حتى خلاصها النهائي.