أول احتراف للألعاب البهلوانية عمره 4 آلاف عام

بانوراما 2021/11/06
...

  خافيير ألفاريز مون وياسمينا ويكس
  ترجمة: ليندا أدور
عاش سكان دول المدن القديمة بمنطقة الشرق الأوسط حياة اجتماعية واقتصادية تنبض بالحياة تمحورت حول مؤسسات القصر والمعبد، المدعومة من قبل مجتمعات زراعية ورعوية تحيط بها، اذ تدفقت الناس والسلع والأفكار بين تلك المدن، ما أدى الى نشوء مساحة ثقافية تم من خلالها الحفاظ على الهويات والعادات المحلية المتأصلة. 
من إحدى تلك العادات التي نشأت في منطقة سوريا كانت الألعاب البهلوانية المحترفة، أو ما يسمى {هوبو huppû} ، الملحقة بالبلاط الملكي. في الوثائق الإدارية لمدينة إيبلا القديمة (تل مرديخ) في سوريا والتي يعود تأريخها الى العام 2320 قبل الميلاد، وردت أولى الإشارات المعروفة عن هوبو، ويمكن تجميع تفاصيل أكثر عن مهنة البهلواني من خلال مقتطفات من معلومات الأرشيف الملكي للفترة من 1771-1764 قبل الميلاد والموجودة في نحو 20 ألف لوح محفوظ بمدينة ماري (تل حريري) المجاورة على نهر الفرات. 
 
كهنة الرثاء
تكشف سجلات المحاسبة والرسائل الشخصية عن فرق من البهلوانيين الذين كانوا يؤدون عروضا لعدة مرات في الشهر في مناسبات خاصة كالاحتفال بعودة الملك سالما الى المدينة ووصول زوار ذوي مكانة خاصة والمهرجانات الدينية. كان مهرجان الآلهة عشتار يتضمن عروضا بهلوانية ومصارعة وأناشيد يؤديها كهنة الرثاء باللغة السومرية القديمة على أنغام الطبول. 
وقد نالت تلك العروض الاستحسان والاعجاب الكبيرين لدرجة أن طاقم عملها ومؤديها كانوا يرافقون الملك للترفيه عنه أثناء رحلاته الى ممالك أجنبية.  
لوصف عروض هوبو، استخدمت صفتين تستحضران عرضا بصريا بطاقة حركة عالية، الصفة الأولى هي (مالولو- mēlulu) وتعني {اللعب} و{الحركة} و{القتال}، أما الثانية فهي (نابالكوتو- nabalkutu), التي ضمت حركات جريئة وديناميكية، ومنها {إزالة عقبة} و{التمرد على قيود} و{الإنقلاب رأسا على عقب} و{تغيير الأوضاع} و{الشقلبة} (كطائر في السماء) أو {الدحرجة} (كالأمواج والهزات الأرضية)، لكنها بدت وكأنها حرفة تستقطب اهتمام الذكور فقط، اذ لا وجود لسجلات توثق صورا أو أسماء لبهلوانيات من الأناث. 
 
تنافس المدارس
في سوريا القديمة، كغيرها من مناطق الشرق، حددت مكانة الفرد الأسرية من إمكانية الوصول الى التعليم الرسمي في الكتابة والفنون، فقد إتبع معظم الأطفال خطى والديهم، اذ وجدت المعاهد الموسيقية المتخصصة لاستقبال الموسيقيين والمغنين الواعدين من الذكور والإناث، في الوقت الذي يتم فيه إرسال الشباب من ذكور هوبو مثلهم مثل الرياضيين المعاصرين، الى أكاديميات متخصصة لاتقانها عبر سنوات من التدريب المتكرر والشاق. 
تظهر المراسلات المحفوظة بين نخبة المتعلمين أن الانقسام بين المعاهد الموسيقية الفنية والأكاديميات الرياضية عكس إنقساما بين العقل والجسد في القيم الثقافية. فقد كشفت رسالة وجهها، بيرادي Piradi، رئيس الفرقة البهلوانية الملكية الى الملك زميري ليم Zimri-Lim في العام 1763 قبل الميلاد، عن مدى التوتر بين المدارس، حيث يناشد فيها أولا الملك وحكمه العادل، ويندب الصعوبة الكبيرة التي يواجهها في فنه الذي لا يحظى بالتقدير الكافي (المتمثل بتفاوت الأجور بين الموسيقيين والبهلوانيين في البلاط) ومعاناته من ازدراء الموسيقيين له. 
كان أعضاء الفرقة يعيشون خارج القصر، ويرجح أن لديهم أسرا أيضا، لكنها لم تكن أسرا سعيدة في الغالب، اذ كانوا يعملون على أساس متقطع ويتقاضون عنه أجورهم بقطع نقدية فضية بعد العرض مباشرة، او ربما لعدة مرات في 
الشهر. 
تكشف إحدى قوائم نفقات القصر حصول البهلوانيين على دخل معيشي معقول، اذ يتقاضى البهلواني العادي قطعة فضية، ونائب قائد الفرقة على قطعتين، بينما يحصل القائد على خمس قطع (القطعة الفضية الواحدة تساوي قيمة شراء 300 كيلوغرام من الشعير). 
 
امتيازات وضغوط
كان لقائد فرقة البهلوانيين امتيازات خاصة يتمتع بها دون غيره، اذ حظي بيرادي باهتمام من الملك وحصل على العديد من الهدايا الثمينة كالملابس الفاخرة والأسلحة الفضية وغيرها، لكنه، في ذات الوقت، كان يتعرض لضغط شديد من منافسيه. وقد عانى بلهوانيو مدينة ماري من تهديد دائم، بشكل خاص، من منافسيهم من مدرسة بهلوانيي هالب Halep  المجاورة (حلب اليوم)، اذ عانوا من نقص محتمل في فرص العمل وتسريح للعديد منهم بالتزامن مع وصول حاكم جديد دعا الى خفض تمويل 
الفنون. 
احتفظت مهنة البهلواني بمكانتها تحت نفس الاسم وربما المضمون نفسه لأكثر من ألف عام، وهو ما يؤكده عقد قانوني أبرم بين مدرب ألعاب بهلوانية يدعى نانا أوزيلي في عام 628 قبل الميلاد بمنطقة بورسيبا، القريبة من مدينة بابل في العراق، التي تبعد عن ماري بنحو 450 كيلومترا، فمقابل قطعتين من الفضة يقوم بتدريب ابن أحد الأشخاص لمدة عامين وخمسة أشهر. تؤكد المزيد من الأدلة على الانتشار الواسع لمهنة البهلواني بعموم أنحاء منطقة الشرق الأوسط انطلاقا من موطنها في سوريا، وهو ما كشف عنه مشهد لمأدبة ملكية محفورة داخل وعاء عيلامي من البرونز في جنوب غربي ايران بحدود العام 600 قبل الميلاد. 
تظهر الرسوم على الوعاء، والتي تعد الأقدم من نوعها، مجموعة من الموسيقيين يؤدون بالترادف، مع مجموعة من البهلوانيين حركات ينحنون فيها الى الخلف ثم يتوازنون ثم يسيرون على أذرعهم. 
في كل مرة تشاهد فيها لاعبي الجمباز او بهلوانات السيرك، فكر مليا في الطرق التي دفعت الناس لإظهار أقصى حدود طاقات أجسادهم على مدى آلاف السنين.