ضحى عبدالرؤوف المل
أعطى «كين كيسي» مؤلف رواية «أحدهم طار فوق العش الوقواق» رؤية درامية تحليليَّة لإيفان رومانسكي وهو كاتب سيناريو مسلسل «راتشيد» الذي ما زال يعرض على شاشة نتفليكس من بطولة: سارة بولسون وشارون ستون، إذ تبلغ المشاعر قوتها عند ازدياد الغرابة السلوكية للأفراد غير الأخلاقيين ويزداد الغموض في مستشفى للأمراض العصبية الصارمة بتدابيرها النفسية العلاجية، وبربريتها في تعاطيها مع الانحراف السلوكي، وبوعي لا استسلام فيه لليأس، فبصيص الأمل الدرامي لا ينتهي، وبمفارقات القرن الماضي والاكتشافات العلاجية للمرض النفسي في محاولة استكشافية لدهاليز العقل، واقتحامه ضمن إنشاء رؤية خاصة تطورت مع مسلسل راتشيد بقوة «مثل عالم كرتوني، حيث الشخوص مسطحة ومخططة بالأسود، تتراقص في قصة هزلية كان يمكن لها أن تكون مضحكة حقاً لولا أن شخوصها ليسوا من الكرتون بل هم بشر حقيقيون».
فهل سرعة الإيقاع في الحركة الدرامية تناقض مع الأحداث؟ أم أنه استطاع سرقة المشاهد من خلال الموسيقى والأزياء والعودة الزمنية في العلاج النفسي وبدائيته؟ وهل يسخر العلم من نفسه في رواية اتضحت معالمها وأسسها في مسلسل راتشيد؟ أم أنَّ المرأة كانت آنذاك تكافح لتصل مع ملائكة الرحمة الى حقوقها المنتهكة؟ وهل الصحة العقلية في مجتمع مريض هي سجن يدخله الإنسان ويسبب له التعاسة والمرض وعدم الاتزان؟
كتب «كين كيسي» روايته في زمنٍ بدا بدائياً ليلوّن قصته بنكهة الاستبداد والظلم، وبداية الانفتاح المكبل بسلوكيات مرفوضة، كالمثلية الجنسية وغيرها التي أصبحت الآن مقبولة في الكثير من الدول الغربية حيث ينتشر هذا السلوك المرفوض من قبل الكثيرين، كما كانت تتم معالجته في مستشفى الأمراض العصبية، لأنه يسيء لمجتمع بات مقبولاً في العالم الذي يُجن أكثر فأكثر، إذ لم تتغير بعض الأشياء بعد أنْ تقدم الطب، لأننا لا نستطيع استيعاب دماغ الإنسان كما يجب. فرواية كين كيسي التي كتبها عام 1962 تم تحويلها إلى مسرحية في برودواي ثم تحولت إلى فيلم حائز على جائزة الأوسكار من بطولة «جاك نيكلسون» رغم أنه في العام 1974 رفع خمسة من سكان سترونجسفيل بولاية أوهايو دعوى قضائية ضد مجلس التعليم المحلي لإزالة الرواية من الفصول الدراسية. و»اعتبروا الكتاب «إباحيًا» وقالوا إنه «يمجد النشاط الإجرامي، ويميل إلى إفساد الأحداث، ويحتوي على أوصاف بهيمية، وعنف غريب، وتعذيب، وتقطيع، وموت، وتصفية بشرية».
وفي العام 1975: تمت إزالة الكتاب من المدارس العامة في راندولف ونيويورك وألتون، أوكلاهوما. وعام 1977 شُطب من قائمة القراءة المطلوبة في ويستبورت، مين. وعام 1978 تم منعه من مدرسة سانت أنتوني، ايداهو فريمونت الثانوية والمعلم الذي قام بتعيين الرواية تم فصله».
فراتشيد الممرضة الصارمة والعاشقة للقواعد المثالية في الحياة تحبط مرضاها لمجرد أنها تريد تطبيق رؤاها في الحياة والعمل، ولأنها تستطيع تمثيل دور ملائكة الرحمة وقلة تعبيرهن في الستينيات، حيث كانت آنذاك أقل تعبيريَّة في التعاطي مع المرضى. فهي مؤمنة بالقواعد المنظمة للوجود المجتمعي، وهذا ما يجعلها مجهولة ذاتياً للقارئ في الرواية، وللمشاهد في المسلسل. لأنها تمثل مجتمعًا غير إنساني يسعى لا إرادياً لسحق الفرد للوصول الى المثل العليا المبتغاة. فهي شخص واقعي ودقيق، وإنْ لعبت السرياليَّة دورها بأسلوب مبطن في شارة البداية وضمن المضمون خاصة الطبيب المسؤول عن المحصحة. لكنها في شارة البداية كانت واضحة جداً، وبأسلوب تشويقي مرسوم بمهارة، فالخيط العقلي والحبكة الروائية والموسيقى والصور المتلاحقة استطاعوا ترجمة السلوك الغريب للأفراد في المسلسل الذي لامس بتراجيديته الكوميديا الساخرة بصمت مهيب. فراتشيد تمثل غياب الفردية والتحكم بالمجتمع. ليكون على صورة قائده أو رئيسه بعيداً عن الضعف والاستسلام من قبل بعض المرضى، كالمصابة بالمثلية الجنسية ورفضها لنفسها وقبولها بأقوى أنواع العلاجات التي تعرضت لها.
فهل الضعف والاستسلام هو ارتباك نفسي لا يمكن علاجه، أم أنَّ الصراع بين القواعد الصارمة والحرية أو التحرر من الأعراف الاجتماعيَّة يحتاج لمصحة عقلية؟ وهل عرض مسلسل راتشيد في العصر الحديث هو لتقييم المجتمعات التي ترفض حالياً السلوك الفردي الشاذ؟ وهل ما تم رفضه سابقاً أصبح مقبولاً في مسلسل نجح بتصوير رواية «كين كيسي» الذي يتواءم مع المقبول حالياً والمرفوض سابقاً؟
التصدع البشري في رواية حيويَّة تحولت الى مسلسل عالج برؤيته الدرامية الإنسان، المقيد بالأعراف الحياتيَّة المرفوضة، بدءاً من قتل المهووس النفسي القساوسة وصولاً الى الطبيب المعالج وارتباكه النفسي للوصول الى العلاجات التي تشكل نوعاً من تنفيذ الأعراف الاجتماعيَّة المقبولة بين الأفراد، والقدرة على قبول الآخر. فالمصحة النفسية تعج بالمفارقات الحياتيَّة كالمجتمع تماماً، فالرمزيَّة والواقعيَّة وحتى سرياليَّة بعض السلوكيات اجتمعوا مع كين كيسي والتضاد الزمني الساخر عبر مسلسل ناشط حالياً على شاشة نتفليكس.
فهل ما رفضته الشركات الكبرى للإنتاج في الستينيات تم تصويره عام 1975 لينال العديد من الجوائز، وهو الذي انتقد المجتمع الأميركي بقوة وهو مستوحى من أغنية شعبية للأطفال كما كتب «كين كيسي» في مقدمة روايته. فالوقواق هو غريب الأطوار المختل سلوكياً، وهذا الطائر يصنع عشه فوق عش الآخرين، فالشخصيات رغم هشاشتها النفسيَّة محبوبة وإنْ خضعت لسلطة الممرضة القمعيَّة في عالم من أنظمة صنعتها وفق المعايير التي تراها مقبولة اجتماعياً. فهل الفكرة برمتها مجنونة تماماً وتحتاج لصقل زمني هو الحداثة التي عالجت كل ما هو مرفوض في الستينيات من القرن الماضي؟