ها أنت أيّها البدوي العجوز تستحضر صباحاً تموزياً يعود الى سبع وخمسين سنة خلتْ وكأنّها بحسابات الدهور لا الأيام، عجباً كيف يتسنى لك ذلك، ومواجع العجاف من أعوامك توقظ ليلك، فلا تدري على أيِّ عكاز تتكئ، ما بقيت (عنقية ولا قطنية ولا سلامية ولا فقرة) إلّا مسّها الضرُّ وأنت أرحم، وجسد تستعين عليه عنوة للجلوس فإذا جلستَ لن تستطيع النهوض (والموتُ أرحمُ من خطيَّه)، فكيف واتتك شجاعة الألم، هل هي صلابة البدوي وصبر الجمل أم هو أول صباح مضمّخ برائحة تموز تعلن فيه (الجريدة) بشارة مولدك من برج الصحافة، ليتها ما كانت البشارة ولا البشرى، ليتها كانت من برج الاثرياء او الاغبياء لكنت على حظ عظيم، غير أن الاعلان أتى، وبرجك الذي أضحى قدرك بات محسوماً، فيا لعظيم الخسارة وقد تقطع ما بينك وبين جذرك، فلا حرية الصحراء ولا أسرار الرمل ولا نقاوة البدوي، بل هي ابتلاءات الديالكتيك والوجودية وغوايات اليسار والسياسة ودرب موحشة بين الشك واليقين و(بنات المدن دفله، وحياة المدن دفله) فكيف الرجوع وأنت مطرود من ماضيك، لولا سعادة الميلاد يومها على درب الكلمة التي عشقتها، ما كانت تعادلها إلّا ومضة القلب تخفق على ابتسامة الحبيبة، طفلاً أيّها العجوز كنتَ تتصرف، والجريدة في يدك المرتعشة انتشاء تعلن عن مخاضك، كان المخاض يسيراً، وكانت الولادة متواضعة من غير دفوف ولا شموع ولا غناء، وكنتَ مزهواً بابتسامتها (إنّه أنا)، اسمي ومقالتي... أنظري لم يتصرف أحدٌ بحروفها، فيشرق وجهها، وهي المرة الاولى في تموز قبل سبعة وخمسين عاماً لولا، ولولا الحياءُ ومخافة الوشاة كدتَ تضمّها الى صدرك، وكادتْ لولا الحياءُ ومخافة العشيرة تغفو بين ذراعيك، ويمضي العمر سريعاً وكأنّه يسابق الزمن أو يتعجّل في الوصول الى آخر المطافات (فأكادُ لولا كثرةُ الباكين حولي على أحزانهم)، فإلى أين مبتغاك أيُّها العجوز وقد أمضيت سبعاً وخمسين من العجاف ومتاعب القلم.. لم تهدأ ولم تتوقف، وما زلتَ هنا في "الصباح" وهناك في "الشبكة" و.. وهنا في الوطن الأحبّ الى الروح، وهناك خارج الوطن والحدود وأنتَ تكتبُ وتكتبُ وكأنّك تسابقُ موتك او تخشى قدومه قبل أوانه، وموتك حين تنطفئ العين وترتعش الأصابع وترتجُّ الذاكرة ثمّ يتوقف القلمُ عن سحق الطغاة والعروش الخاوية.. عجباً كيف تتسنى لك الإطلالة عبر مواجع العجاف من رحلة الكلمات.. أما كسرتْكَ الريحُ يا رجلُ؟
سؤال يطاردك في النهار ويعاشرك في الليل (ما كسرتني الريحُ ولكنّي انكسرتُ)، لم تجرؤ يدٌ ولم تتطاول على العبث بأوجاعك، حتى اذا اختلطَ القمح بالعوسج وطلع الاعراب وتفتقت الجحور على الغرباء وصبيان الكلمة، في كلِّ عصر غرباء وأعراب وصبيان، على مدى الخمسين وسبع وهم المسكونون بالدينار المتمسّكون بضرع البقرة يريدون أن تكون مهرِّجاً في بلاط السلطان، ويتمنَّون لو كنتَ بعضاً منهم، وأنتَ تقاومُ متمسكاً بقدرك، لم تحنِ هامةً ولا قامةً، ستة عقود وأنتَ منفيٌّ في زمن الغير وما كسرتكَ الريحُ ولكنّك انكسرتَ..