في أعماق القطب الشمالي .. بلدة تحارب من أجل انعدام الانبعاثات

بانوراما 2021/11/10
...

 كاثرين شوارد    
ترجمة: مي اسماعيل
تشعر بلدة {لونغييربين -Longyearbyen}  (مدينة السنة الطويلة) الواقعة على جزيرة سفالبارد {Svalbard}  النرويجية بوطأة أزمة المناخ، وتسعى لتضرب مثالا عن كيفية التعامل مع هذه الأزمة. يحمل {آريلد أولسن} ذكريات واضحة عن أولى خطواته على ثلوج المدينة قبل نحو عقدين من الزمن. 
ويقول أولسن الذي صار الآن عمدة البلدة: {أذكر صوت حركتي على الثلج لأنه كان جافا جدا كأنني أتحرك على الزجاج، لكنني لم أعد أسمع ذلك الصوت منذ 
سنوات}. 
لقد غيرت أزمة المناخ طبيعة الثلج وأعادت تشكيل الحياة في هذه البلدة البالغ عدد سكانها 2500 نسمة، ضمن أرخبيل جزر سفالبارد الواقعة في عمق الدائرة القطبية، عند منتصف المسافة بين النرويج والقطب 
الشمالي. وهي أبعد مستوطنة بشرية مأهولة بشكل دائم في أقصى شمال العالم، كما توصف بأنها الأسرع تعرضا للحرارة. 
إذ تصنّف جزر سفالبارد تقنيا على أنها صحراء قطبية؛ لكنها أصبحت تزداد رطوبة ودفئا. 
كان صيف العام 2020 الأكثر حرارة منذ بدء تسجيل درجات الحرارة عالميا؛ وبلغت درجات الحرارة الاعتيادية في المنطقة حدود العشرينات سيليزية، يقول أولسن: {هذه درجات مرتفعة كثيرا في القطب}. 
ولم يكن ذلك بالظاهرة العابرة؛ إذ ارتفع معدل درجات الحرارة بنحو أربع درجات سيليزية منذ سبعينات القرن الماضي، ومن المتوقع أن تزداد بنحو عشر درجات بحلول نهاية القرن في سنة 2100. 
 
مصدر إلهام
العيش هنا يعني الجلوس في مقعدٍ أمامي لمشاهدة أزمة المناخ؛ كما يرى {كيم هولمين}؛ المدير الدولي للمعهد القطبي النرويجي، والذي درس ظروف جزيرة سفالبارد على مدى العقود الثلاثة الماضية. 
يقول هولمين: {تتغير حياة الأسماك والحيتان والفقمات، كما تتغير حياة الطيور بشكل دراماتيكي.. نحن نرى انهيارات جليدية ومباني تفقد أسسها. 
وكيفما تكون التغيرات فنحن نشهدها هنا}. لكن الموقف لا يعرف اليأس؛ ففي السنوات الثلاث الماضية كان أولسن يُطوّر خطة طموحة لتحويل بلدة لونغييربين الى بلدة تكون إنبعاثات الغازات المضرة للبيئة فيها بمستوى الصفر، ويريد أن يجعلها نموذجا لمواجهة تغير المناخ إضافة للتكيف مع التغييرات التي جرى تشخيصها بالفعل، ويعلق قائلا: {يمكننا أن نكون مصدر إلهام؛ ومنارة لتصدي أكبر في مواجهة تغير المناخ}.. وهذا لن يكون أمرا سهلا. 
فلونغييربين بلدة قائمة على صناعة الفحم، وهذا الوقود هو ما جاء بأولسن (عامل منجم سابق) الى سفالبارد، ودفعه لاحقا لكي يبدأ رحلته الى السياسة؛ حينما صار زعيما نقابيا. 
وكان للفحم دور مهم في أن يحفّز قلقه بشأن تغير المناخ؛ حينما بدأ بالتساؤل عن جدوى إقامة اقتصاد كامل على مصدر مُلّوث متناقص. 
يمضي أولسن قائلا: {لم نجد طريقة أكثر سوءاً لإنتاج الكهرباء من الفحم بوصفه الوقود المغذي}. 
فالفحم يولّد إنبعاثات كثيفة، وهو مكلف للغاية بالنسبة مجتمع صغير؛ كما أنه عرضة لتأثيرات تغير المناخ. وحينما ارتفعت درجات الحرارة فوق 21 سيليزية، خلال الصيف الماضي؛ غمرت المياه الناتجة عن ذوبان نهر جليدي المنجم الوحيد النشط الذي تديره النرويج في سفالبارد؛ وتسببت بأضرار جسيمة أجبرت إدارته على إغلاقه.
 
استغلال الطاقة الشمسيَّة
يحمل أولسن، الذي يريد أن يُخلّص بلدته من الفحم بأسرع ما يمكن؛ أفكارا عديدة حول تغيير مصدر الطاقة. 
ويرى أن الحيلة تكمن في التوصل إلى سبل جمع أنواع مختلفة من التكنولوجيا؛ مؤمنا أن خليطا من طاقة الرياح والشمس يمكنه أن يزود البلدة بالطاقة وإنتاج هيدروجين أخضر خال من الانبعاثات ويمكن خزنه أيضا. 
ولعل فكرة الطاقة الشمسية مثيرة للدهشة في بلدة تشتهر بما يطلق عليه {موسمها المظلم}؛ إذ تعيش نحو ثلاثة أشهر (من تشرين الثاني الى أواخر كانون الثاني) وسط الظلام حيث لا ترتفع الشمس أبدا فوق مستوى الأفق. 
غير أن مثل هذا الجو يقدم منافع لا تقتصر على عدد من الشهور لا تغيب فيها الشمس أبدا فحسب؛ بل أن الجليد يوفر سطحا عاكسا يمكنه أن يزيد من إنتاج الطاقة، كما ترفع البرودة من كفاءة الألواح الشمسية. 
يقول {توماس ثيس} الأستاذ في الجامعة النرويجية لعلوم الحياة، إن انخفاض التكاليف يجعل الطاقة الشمسية أكثر قدرة على المنافسة بالنسبة للمناطق القطبية. 
شارك ثيس في دراسة حديثة عن انتاج الطاقة الشمسية بالمناطق القطبية؛ والتي تضمنت إجراء تجارب على مجموعة (إنتاج طاقة) شمسية صغيرة خارج لمدينة لونغييربين.
هناك أيضا بعض التحديات؛ فالرياح القوية تعني تطاير صخور وحصى ترتطم بألواح الطاقة الشمسية وتهشمها، ويمكن أن يتسبب الثلج المنجرف بأضرار ميكانيكية.  
ولكن هناك طرقا للتكيف مع تلك الأوضاع؛ كما يقول ثيس: {لا تعتبر أي من هذه المشكلات إيقافا كاملا للعمليات؛ بل دعوة لإيجاد الحلول الهندسية 
المناسبة}. 
ويبدو أنه من المقرر إغلاق منجم الفحم القديم في غضون عامين إلى خمسة أعوام، فقد باتت كلفة تشغيله تشهد تزايدا مستمرا، وأعلنت الحكومة النرويجية خلال شهر كانون الثاني الماضي أنها تبحث عن حلول جديدة للطاقة في بلدة لونغييربين؛ محذرة من أنه قد يتوجب استخدام الغاز أو الخلايا الحيوية خلال المرحلة الإنتقالية المقبلة قبل البدء باستخدام مصادر الطاقة المتجددة. يقول أولسن: {نحن نتحدث هنا عن تحويل مصادر الطاقة في بلدة بأكملها}، وهذا يتطلب وقتا؛ لكنه يعتقد أن وتيرة العمل ستتسارع فقط مع استمرار انخفاض تكلفة مصادر الطاقة المتجددة.
 
المنازل أصبحت تتحرك
من النواحي التي تسير فيها وتيرة التحول أسرع من غيرها- قطاع الإسكان؛ إذ كشفت الانهيارات الجليدية الأخيرة المرتبطة بالتحول المناخي عن هشاشة بلدة أقيمت على أعتاب الجبال. كذلك تسببت الأجواء الدافئة بالذوبان العميق داخل التربة الصقيعية؛ التي كانت توفر دائما الأسس المتجلدة للمدينة. 
وهكذا بدأت المباني (التي كانت تُشيّد تقليديا على ركائز خشبية تغرز عميقا داخل التربة الصقيعية) بالتخسف الى داخل تلك الأرض وتعفنت أسسها. وهو ما يصفه أولسن قائلا: {المنازل أصبحت تتحرك، وكذلك الطرق وكل شيئ آخر يتحرك}.
وبعد سلسلة من الانهيارات الجليدية قامت الهيئة النرويجية للبناء العام والممتلكات {Statsbygg} (التي تعتني بالمباني المملوكة للدولة) بتشييد نحو ستين منزلا معدا للتجاوب المناخي، ترتكز على أعمدة فولاذية غارقة في التربة الصقيعية ومغروزة عميقا في صخور الجبل. ويؤكد {إنجر جوهان تولاس} مدير مشاريع الهيئة الذي أشرف على التشييد أنهم لم يقوموا بمثل هذا البناء مسبقا. جرى تشييد المنازل وفق مواصفات {Passivhaus} التصميمية (= معيار دولي لأداء الطاقة لتقليل متطلبات التدفئة والتبريد. المترجمة) لكي تكون معزولة وذات متطلبات طاقة وكفاءة حرارية منخفضة قدر الإمكان. كذلك تجشمت الهيئة العناء للحفاظ على النباتات والشجيرات والأزهار خلال فترة العمل؛ وهذا يعني إزالة الطبقة السطحية من أرض الموقع وخزنها في مكان آخر ثم إعادتها عند إنتهاء العمل؛ وكأنها سجادة حية. 
يقول أولسن: {علينا تخطيط بلدة يرغب الناس بالعيش فيها}؛ وهذا يعني منازل مريحة ومناطق خضراء؛ لكنه يشمل نواحي أخرى، مثل معالجة الزيادة العالية لأعداد السيارات. وفي هذا الشأن يرغب أولسن بتحفيز مبدأ مشاركة السيارات بين الأسر والتشجيع على المزيد من المشي واستخدام الدراجات الهوائية. 
 
اعادة الاستخدام والتدوير
يفكر مدير البلدة؛ أولسن، أيضا بمعالجة النفايات؛ إذ يجري حاليا شحن غالبية نفايات المدينة وإعادتها الى البر الأساسي لتقطع مسافة تصل إلى 1400 كم، وغالبا ما يكون شحن المواد الجديدة أرخص بكثير من تغيير استخدامها أو إعادة تدويرها، وحول ذلك يقول يعلق بالقول: {إنه لأمر غبي بامتياز؛ فنحن نرسل البلاستيك من البر الأساسي الى البلدة، ثم نرميه كنفايات ونعيد شحنه ثانية الى مصدره. فبدلا من إلقاء كل شيئ بعيدا، نحاول النظر الى النفايات كمصدر يمكن إعادة 
استغلاله}. 
يأمل أولسن أن يكون مركز إعادة الاستخدام الجديد بمثابة الخطوة الأولى نحو تأسيس اقتصاد تدويري في لونغييربين، حيث يُلقي الناس بأشياء لا يريدونها أو يجدون أشياء تنفعهم من بين ما يتركه 
الآخرون. 
يُدرِك مدير البلدة أنه حتى إذا حققت بلدته هدفها ووصلت الانبعاثات فيها الى مستوى الصفر وحولت اقتصادها؛ فإن نشاط بلدة القطب الشمالي الصغيرة تلك لن يكون أكثر من قطرة في المحيط عندما يتعلق الأمر بمعالجة أزمة المناخ المتسارعة. 
لكن هذا ليس هو الهدف، كما يقول: {لا يملك أي مجتمع، صغيرا كان أم كبيرا، ترف التراجع، مشيرا إلى أن الأمر معقدٌ جدا ولا نستطيع تنفيذه، فنحن مجتمع صغير جدا، وعلى الجميع فعل شيءٍ ما، ونحن يمكننا فعل شيء ما؛ لنكون حينها جزءا من الصورة 
الكبيرة}.