د. نادية هناوي
لعل من أهم المحددات الاجناسية لأي فن، أنْ تكون له حدود تؤطره شكلًا وموضوعًا، وإلا فإنَّ شرعية التجنيس ستنتفى عنه، ولا يعود من الصحيح عدُّه جنسا أدبيا، لكن هذا الالزام النظري للحدود الاجناسية لا تنطبق على فن هو أوسع من أن تؤطره حدود وأعني به المقالة التي لا تُلزم عملية كتابتها أن يكون كاتبها متموضعًا في قواعد معينة أو مقيدًا بحدود كتابة لا يتجاوزها.
ومن هنا تقتضي عملية التمرس في كتابة المقالة امتلاك ناصية الابداع مع الدربة التي تجعل صاحبها قادرا على الانتاج من دون تحييد تقوم عليه ولا شروط نوعية تقولب تصنيفها؛ بل هي الحرية في انفلات المقالة من القواعد جنبا الى جنب الالتزام في كتابتها باطارية ابداعية هي في الاغلب شخصية. وواحدة من تضادات هذا الجمع بين قاعدية التجنيس ومائعية الفن أنّ المقالة تصبح فنا حرا، يتخذ من النثر اطارا يجتمع داخله الشعر والمثل والسيرة والرحلة والحكاية والخاطرة بينما يعتمد في قاعدته على الكاتب ورؤيته الذاتية لموضوعات تعكس خبراته وتجاربه وهو يتحرى العلمية والوصفية استقراء وقياسا ويتقصد التشويق الذي لا تحديدات لأنماطه ولا تعريفات لكيفيات انتاجه في المقالة.
وإذا كنا قد وسمنا جنس المقالة بالحرية الفنية؛ فإن أي تصنيف أو توصيف لها سيكون مضادًا لنزعتها في التحرر واللاتحديد، بمعنى أن نتحدث عن مقالة أدبية ونحن نريد الذاتية أو نتكلم عن مقالة قصصية ونحن نريد
الموضوعية.
ويبقى عدم التكلف والبعد عن التعقيد ملمحًا يجعل المقالة تقدم لقارئها زادًا فيه مقدمات وتعليلات ونتائج وتوصلات بطريقة تلقائية.
والمقالة وحدها التي تجعل كاتبها قادرا على أن يجمع في شخصه أوصافا لا تجتمع عند أي من كتّاب الأجناس الأدبية الأخرى، فهو الناقد والاديب والاستاذ الجامعي والصحفي والمفكر والمصلح والعالِم. ومن هذا التعدد الكتابي بدأت بوادر النقد عند العرب، جامعة الموهبة الذاتية بالعبقرية الموضوعية، وبمثل هذه الروحية نشأ النقد في العصور الحديثة في
الغرب.
وعلى الرغم من هذا التميز الفني الذي تنفرد به المقالة؛ فإنها لم تلقَ لدينا الاهتمام النقدي الذي يناسب تفردها، ناظرين إليها كجنس كتابي، غالبا ما نقيد فاعليته بصفات، بينما المقالة أوسع من أن تكون متقوقعة فيها، فمثلا ذهب د. علي جواد الطاهر في كتابه( من حديث القصة والمسرحية) إلى وسم المقالة بالأدبية وعرفها بأنها التي تنبثق عن قراءة الرواية أو مجموعة قصصية، ولم يستبعد الطاهر أن تكون المقالة أقرب إلى التحية وقد تأتي نقدًا يعالج مصطلحًا وقد تجيب عن سؤال أو تصحح خللًا في كتاب أو تؤشر على بحثٍ.
وذهب الدكتور فائق مصطفى ـ وهو من الاكاديميين العراقيين الذين أولوا المقالة اهتماما خاصا حتى خصص لها جل عمله الجامعي ـ إلى توصيفها بالأدبية أيضا، وذلك في كتابيه( دفاع عن المقالة الادبية والمقالة الادبية والاستنارة) وعنده المقالة الذاتية أعمَّ من المقالة الأدبية ولها شعريتها، وعرّفها (جنس أدبي نثري محدود في الطول والموضوع يقع في بضع صفحات ولغته سهلة واضحة، تقل فيها الانزياحات.. وفي الوقت نفسه يبرز فيها الطابع الذاتي الذي يجعلها تعبيراً مباشراً عن الرؤية الذاتية والتجارب والخبرات
الحياتية.
وهذا التقييد للمقالة بالوصفين الذاتي والأدبي هو تحييد لجنس لا يعرف التحييد، وقد تكون أكاديمية العمل النقدي هي التي توجب على الناقد البحث عن تحييدات نوعية للمقالة، لكن ذلك يصلح مع الاجناس الشعرية والنثرية قاطبة باستثناء المقالة التي تظل كتابتها بعيدة عن التحييد بلون أو وصف أو تقنين.
ولقد اتخذ د. فائق مصطفى من المقالة وسيلةَ تربويةً غايتها التثقيف والتنوير، فهي قادرة على تقويم السلوك وتوجيه الأذهان وتنمية الأذواق وصقل المواهب، بيد أننا نرى المقالة استنادا الى التوصيف الذي بينا فيه تميزها الاجناسي تصبح هي الغاية والوسيلة معا.
وهذا ما حققه د. علي جواد الطاهر فعليا عبر عشرات المقالات التي اثبت فيها تمكنه من كتابة هذا الفن أدبيًا ونقديًا، وبالإطارين الأكاديمي والثقافي ليكون الأبرز بين النقاد العراقيين الذين طوعوا المقالة متخذا منها غاية
ووسيلة.
ومعلوم أن تاريخ الادب العربي يذكر المنفلوطي ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وأمين الريحاني وجبران خليل جبران، بينما لا يرد ذكر المقاليين العراقيين من المحدثين والمعاصرين الذين كان لهم دور مهم في التنوير مثل شكري الالوسي وفهمي المدرس وابراهيم صالح شكر وغيرهم. والسبب وراء ذلك أمّا لأن المؤرخ الأدبي يجهل الواقع العراقي خلال القرن العشرين وقبله بعقد أو عقدين وأما لأن انحيازه الوطني يدفعه إلى البحث عن الأقرب فالأقرب.
والأمر ذاته حصل مع د. فائق مصطفى الذي وبالرغم من اهتمامه بالمقالة وتبيان أسس نجاحها وشروط إتقانها وممكنات إنتاجها ومحددات الإجادة فيها وكيفيات التمرس والدربة في كتابتها، فضلا عن حرصه على توجيه طلاب الدراسات العليا نحو دراستها والبحث فيها، فإن الملاحظ عليه اهتمامه بالمقالة العربية وتحديدًا المصرية ممثلة بكتّابها المحدثين، غير مولٍ اهتماما يُذكر بالمقالة عند كتّابها العراقيين.
والنموذج المقالي الذي تكرر في أكثر أبحاثه هو زكي نجيب محمود، ولا سيما دعواته الفكرية إلى العقل والالتزام به تحقيقًا لتنمية
الإنسان. ولعل الذي جذبه في مقالات المصريين الأساس النظري الذي منه تنبع مقالاتهم والمتمثل في الاعتناء بقضايا الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية التي فيها الأدب عامل أساس ومهم في تنمية الوعي الإنساني وبناء الذات الإنسانية بناء قويمًا يجعل الفرد فاعلًا في مجتمعه وأسرته.
ولكن هذا الانتهاج الواقعي عرفه أيضا المقاليون العراقيون في العصر الحديث من قبيل تحري النزعة العقلانية والتسامح وإنسانية النظرة للمرأة، فضلا عن السمة التعليمية الموصلة إلى تنمية الإنسان.
وهذا ما يتطلب منا مزيدا من الاهتمام بهذا الشكل الاجناسي والافادة من امكانياته الكتابية الذاتية الادبية والموضوعية النقدية، وهو ما وعاه د. فائق مصطفى، متميزا عن مجايليه، محاولا رفع التهميش عن هذا الجنس سواء في نقده أو في تدريسه، شاعرا بالمسؤولية في ضرورة غرس الاهتمام بتدريس المقالة لطلبة اقسام اللغة العربية، كونها الاداة الناجعة في التثقيف والنواة الصالحة للنماء والارتقاء داخل أروقة الجامعة
العراقية.