الرواية فن التأويل

ثقافة 2019/03/09
...

 ابراهيم سبتي
 
 
 
منذ القراءة الاولى ، كانت الذاكرة يقظة حادة ، تتلقف كل ما هو مثير وغريب ومبهر وممتع.. فكانت الروايات الاكثر غرابة تقبع خلف سدود ومتاريس الذاكرة لا يمكن ان تغادرها ولن تنسى كل ما اُفرغت فيها من حكايات واحداث تميزت بدهشتها . فهرولنا الى نجيب محفوظ بادئين منه مسيرة الألف ميل فعرفنا عوالمه المقهورة والخانعة واليائسة تحت سطوة الجبروت المفعم بعبق التفاصيل الممتعة والمحبوكة وعرجنا بعده الى تفاصيل اكثر غرابة وابهار وغموض  وتعجب عند اجاثا كريستي ومنها كان تجوالنا نحو عوالم الغموض والاثارة والابهار يلازمنا كل ما امسكنا برواية جديدة من هنا او من هناك وكان التأويل ملازما. ولكن هذا لا يعني بأن القراءة ابتعدت عن المحلية ، فكل ما يصدر من روايات حتما قد شكل اضافة مهمة في تاريخ الحكي وان اختلفت مستوياته. 
قراءة الرواية ليست قراءة طارئة او مسطحة او عادية، انها فعل نفسي يتأتى من انطباع مفاده بأن ثمة شيئاً يحصل، ثمة شيء يستفز المخيلة والذاكرة والقلق المغلف بالريبة انه تأويل النص مهما اُريد له ان يكون.. انه الفعل الذي لا يمكن قياسه بمدى ترويحي آخر او مجرد انزياح وقتي للقبض على الساعات الراحلة من اعمارنا. انها لحظة القبض على المتعة المخبوءة خلف اسطرة الحكاية، ولكن ايّما حكاية . القراءة التأويلية هنا بوصفها معطى جمالياً، هي القراءة المنتجة التي تثوّر الاحاسيس وتمنح المتعة الجامحة داخل النفوس.  وقراءة الرواية، ليست نزهة بقدر ما هي ايقونة من فلسفة معرفية وتقليب معمق من الاسئلة المتلاطمة التي على القارئ ان يجيب عليها بوصفه المكمّل لبناء النص بعد الكاتب . تأتي الاسئلة منذ اول سطر ولا اجوبة البتة لأن مفاتيح النص تبقى مغلقة احيانا. صفحات الرواية هو المكان الذي ينطق من دون وساوس ولا افتراضات لاننا ببساطة صريحة قد تغيظنا بعض السطور او لا تمنحنا متعة السفر بين الكلمات فنغادر مبكرين من دون وجع قلب او ندم.. في روايات دان براون، نموذجا، ثمة خيوط معلقة تحتاج الى معرفة حياكتها ، صفحات من غير المتعارف عليه في فهمي للنص الذي اقرأه او اكتبه ، اجدني لم اعرف تماما حلّ احجيات والغاز الكاتب الذي راح يتخاتل معي حتى السطور الاخيرة (اقصد هنا روايتي شفرة دافنشي والجحيم) بما فيهما من التأويل والاثارة الباهرة والتشويق الرصين فكنت الاعب احاسيسي المستنفرة حينما اتنبأ بما يحدث لكن مجريات السرد الذي يجرني الى متاهات غاية في الاتقان فأعتزل دور المحقق لأكون قارئا ناعما مخدرا بألاعيب السرد النابض بالقوة والتحدي فلا تهمني سوى الاجوبة التي ابحث عنها. 
القراءة لعبة التحايل بين طرفي النص، فالكاتب يضع نفسه في خانة الصياد الذي يتهيأ لصيد فرائسه الغافلة ، والطرف الاكثر يقظة هو القارئ القلق الذي يبحث عن طرق سهلة لسبر اغوار المكنون والغامض الغائص بين ركامات السرد ،  فتتقلب مخزونات الذاكرة في مديات اخرى للحكاية ليست هي المطروحة اصلا لانها اخذت مسارا اخر حسب فهمنا للنص وتأويلاته.. وفي قراءة متأنية اجدني قد استنفذت الاعيبي في المعرفة عن بعد او فك مجاهيل الغموض ولكني اقع فريسة الكاتب النبه الماهر فيحيل ذاكرتي وفراستي نحو الفراغ المتناهي لأني لم اعرف ما ذا يريد وهو ما يحدث بكثرة هذه الايام.. وفي عملية قفز على المكان ، لابد للقراءة ان تكون منتجة ومفيدة ومستفزة للمخيلة الساكنة المتهيئة دوما لالتقاط الاشياء الجميلة . في كل قراءاتنا  نبحث عن جمالية الكتابة والقصد والمناورة والتشابك والحل ... في المطروح الراهن ، ثمة تنوع في الاسلوب وثمة تنوع في الانتماء وثمة انثيالات فكرية ومزاجية، ربما قد لا نتفق معها او قد نؤيدها .. الروايات الناجحة، هي روايات المخيلة المشرعة على فضاءات التأويل: التشويق والاثارة والتعجب والسرد المفتوح على الألم والجروح والخسارات والحب والامنيات معا ، انها فن التأويل حقا .