التعليم الالكتروني يربك العمليَّة التربويَّة

ريبورتاج 2021/12/16
...

  بدور العامري 
 
لم تقتصر انعكاسات التعليم الالكتروني الذي فرضته اجراءات التباعد الوقائية لجائحة كورونا خلال العامين الماضيين، على التأثير في المستوى التعليمي وانخفاض المنحنى المعرفي للطلاب بصورة عامة، وتلاميذ المرحلة الابتدائية على وجه الخصوص، انما تسبب بمشكلات نفسية وعاطفية للاطفال وذويهم على حد سواء، «الصباح» فتحت الباب لشهادات وهواجس أولياء الأمور والملاكات التربوية للحديث عن هذا الموضوع الذي يمكن وصفه بـ (غيض من فيض) للمشكلات التي يعاني منها قطاع التربية والتعليم في العراق.
معاناة
تقول ام نور التي لديها ثلاثة أطفال في المرحلة الابتدائية، «عانينا الامرين خلال الفترة الماضية بما يخص التعليم الالكتروني، اذ كنت أصاب بالهستيريا عندما لا استطيع التوفيق بين تدريس ابنائي الثلاثة، وهم موزعون بين اكثر من مدرسة، اذ كثيرا ما تبدأ الدروس المباشرة في وقت واحد لمراحل مختلفة، الامر الذي يجعلنا نضحي بمتابعة دروس ابنتي الصغيرة ذات الـ 8 أعوام، والمضي بتدريس اخويها نور ومثنى الأكبر منها.،
وتساءلت ام نور عن مصير المنصة (منصة نيوتن) التي أعلنت عنها وزارة التربية خلال العام الماضي، والمعنية بتقديم الدروس للتلاميذ بصورة يومية ومنظمة، والتي كثيرا ما بحثنا عنها ولم نجدها بسبب سوء خدمة الانترنت، اما بالنسبة لمتابعة الدرس الالكتروني، فتحدثت ام نور «كنا في سباق مع الزمن و توتر دائم، بدءا من سماع صوت المعلم في طرح الأسئلة، الذي غالبا ما يكون صوته مفقودا طوال فترة البث باستثناء كلماته في نهاية الدرس بجملة «احسنتم ابنائي»، وتسخر ام نور قائلة: لا نعلم لماذا احسنوا، واغلب الاجابات تكون
خاطئة!. 
واظهرت دراسة نشرتها المراكز الاميركية للسيطرة على الامراض والوقاية منها( cdc) “ان التعليم الافتراضي بنوعيه الالكتروني او المدمج قد يشكل مخاطر على الصحة النفسية وعافية الاطفال والآباء اكثر من التعليم الشخصي (الحضوري)، وقد تكون هناك حاجة الى مزيد من الدعم للتعامل مع آثار جائحة كورونا، اذ أفادت الدراسة ان نسبة 54 % من الآباء والامهات الذين تلقى أطفالهم التعليم عن بعد، اصبحوا يشعرون بمشكلات عاطفية مختلفة، إضافة الى الإبلاغ عن فقدان العمل والمخاوف بشأن الاستقرار الوظيفي والصعوبة في النوم، فضلا عن تحديات رعاية الأطفال والصراع بين العمل ورعاية الطفل.
 
التعليم الهجين
يقول أستاذ علم النفس في جامعة بغداد الدكتور احمد عباس الذهبي: تسبب التعليم الالكتروني خلال الفترة الماضية، بانهيار نفسي للاسرة، بعد أن فرض كوسيلة تعليمية طارئة بسبب ظروف جائحة كورونا، ونبه الذهبي الى أن الامور ربما تصل الى حاجتنا لمصحة نفسية، نتيجة للمشكلات التي ظهرت بعد استخدام هذا النوع من التعليم، سواء كانت على الطالب والتلميذ او ذويه، موضحا أن التعليم الالكتروني (الهجين) هو عبارة عن وسيلة تعليمية حديثة، تعتمد في مضمونها على اختلاف المكان وبعد المسافة بين المعلم والمجموعة الدراسية، وبين الذهبي أهمية مراعاة الصحة النفسية للطلبة خلال مراحل التعلم عن بعد. 
علماً أن معظم المدارس لم تعط للصحة النفسية أولوية خلال التجربة الجديدة، ما أدى الى مضاعفة المشكلات النفسية لدى الطلبة، ومنها القلق والتوتر والصراعات الداخلية، نتيجة لمعاناتهم من ضغوط نفسية كبيرة بسبب غياب (الحرم المدرسي) و الجلوس امام جهاز الحاسوب او الهاتف النقال لفترات طويلة، مشيرا الى وجود خلل كبير في تعاطي الملاكات التدريسية مع موضوع التعليم الالكتروني. 
 
عشوائية
المدرس حسين علي الحمداني يجزم بأن اسلوب التعليم الالكتروني فشل في ايصال المادة العلمية للتلاميذ، خاصة من هم في المرحلة الابتدائية، لأنها فترة ذات اهمية بالغة وتحتاج الى تعليم حضوري فعلي، ويرجع الحمداني سبب هذا الفشل الى عدم تفاعل التلاميذ مع هكذا نوع من التعليم، اضافة الى نقص الخبرة في مجال التكنولوجيا والحاسوب لدى الملاكات التدريسية، فضلا عن المشكلة العامة وهي رداءة خدمة الانترنت او عدم توفرها في اغلب المدارس، ما جعل عملية التواصل بين المعلم والتلميذ تتسم بالعشوائية وفي اوقات غير مناسبة، الامر الذي يستوجب الوقوف على اهم المشكلات الفنية المتعلقة بموضوع التعليم الالكتروني لتحقيق الفائدة المرجوة، مثل ضرورة توفير الانترنت داخل المدرسة مع وجود الاستاذ والبث الحي في اوقات محددة وبشكل منظم، لضمان التواصل المباشر وبالتالي تفاعل التلاميذ وفق آلية ثابتة اشبه بالدوام الحضوري، ويعتقد الحمداني انه نتيجة لافتقاد المجتمع للبنى الأساسية المناسبة في التعامل مع هذا الاسلوب الطارئ من التعليم (الالكتروني)، ومنها عدم توفر خدمة الانترنت بشكل دائم وانعدامها تماما في اغلب المناطق الريفية، فضلا عن افتقاد عنصر التواصل مع المعلم او المدرس، الذي نجده في التعليم المباشر، اذ يصغي الطالب لاستاذه بكل حواسه، فضلا عن جوانب النصح والتحذير ومحاسبة الطالب في حال تقصيره بأداء واجباته
المدرسية.
تدني المستوى
وبحسب المختص بعلم النفس الدكتور احمد عباس: ان فقدان التعامل المباشر والتواصل الحي بين المعلمين والمتعلمين افرغ العملية التعليمية والتربوية من محتواها الأساسي. 
اذ ان غياب الحوار بين الطرفين يؤثر في الحالة النفسية للمتعلمين مثل الشعور بالضياع، خاصة لدى المراحل الأولى من التعليم الابتدائي، فضلا عن التأثير السلبي في ذكاء الطالب المنطقي. 
ويتابع الدكتور احمد قائلاً «من خلال الحوار والتعامل المباشر يتعلم الطالب ادب النقاش والاستماع وكيفية طرح الأسئلة واحترام الطرف الآخر، عن طريق انتقاء الألفاظ والمصطلحات المناسبة، وكذلك يعمل  استخدام التعليم الالكتروني على ضعف الدافعية نحو التعلم والشعور بالملل نتيجة الجلوس امام شاشات الكومبيوتر والتعامل معها، ما ينتج أطفالاً انعزاليين
وانطوائيين.
وتؤيد ام نور رأي الدكتور احمد قائلة «هناك تراجع في المستوى التعليمي لدى ابنتي نور وهي تلميذة في الصف السادس الابتدائي، خاصة في ما يتعلق باللغة العربية وترتيب الجمل وحفظ المعلومات، علما انها كانت من الأوائل قبل دخول الجائحة والتعليم الالكتروني».
 
طقوس مدرسيَّة
بينما يقول مصطفى البياتي (34عاما)، اب لطفلة في الصف الثالث الابتدائي، انه لم ير ابنته بهذه الفرحة واللهفة لقدوم العام الدراسي الجديد كما هي الآن، متمنياً أن يستمر الدوام الحضوري في المدارس، من دون العودة الى التعليم الالكتروني (البائس) حسب وصفه، مبيناً أن ابنته رهف لم تتقن الحروف العربية وقراءتها بشكل جيد خلال العامين الماضيين بسبب اعتماد التدريس الالكتروني، وهو برأيه لا يناسب المراحل الأولية بشتى
الطرق.
 ويتابع ولي الامر مصطفى «وكذلك الحال بالنسبة لباقي زملائها من التلاميذ أيضا فهم يعانون من صعوبة القراءة والكتابة لأنني على تواصل مع ذويهم، مع العلم اني ووالدتها في البيت كنا نعطيها الدروس والتعليم ونتابع الحصص اولا بأول»، ويقول مصطفى بنبرة ساخرة: لكن للمدرسة سحراً
فعالاً!. 
مشيداً بالجهود المباركة التي يبذلها الكثير من المعلمين والمعلمات خلال العام الدراسي الحالي في إعادة المنهج الدراسي للعامين الماضيين ولو بصورة سريعة. 
ويقول مصطفى وبحسب تجربته مع طفلته : إن الأطفال بحاجة حقيقية الى طقوس المدرسة التحفيزية، التي تبدأ من الاستيقاظ صباحا وارتداء الزي المدرسي والذهاب الى المدرسة مرورا باللعب واللهو مع الأطفال والركض في باحات المدرسة، مع تلقي المعلومة من المعلمة او المعلم بصورة مباشرة، التي لها وقعها الكبير في نفوس وعقول التلاميذ.
 
إيجابيات ولكن!
بينما يعتقد الكاتب والتربوي صباح محسن كاظم: انه لا بد من الاعتراف بأن التعليم الالكتروني استطاع أن يحقق بعض الأهداف الإيجابية في ظل اقسى جائحة اصابت العالم، بما تمتاز به من سرعة الانتشار والعدوى وتعدد الموجات و(تحورات المرض).
اذ اسهم بالتباعد الاجتماعي عن طريق قلة الاختلاط بين الطلبة ومن ثم تفادي مخاطر انتشار المرض من جهة، وتأسيس ثقافة الثقة بين الطرفين (المعلم والطالب) من جهة اخرى، اذ اصبح التعليم عن بعد توجهاً عالمياً للدراسة. 
ويتابع التربوي صباح كاظم حديثه في أن «هناك دولاً نجحت في تحقيق الأهداف المرجوة من التعليم الالكتروني، بينما اخفقت دول أخرى»، وبحسب رأي الكاتب صباح «ان الامرين كلاهما مر»، اما الانتشار الفتاك للوباء او الدراسة عن بعد مع وجود الاخفاقات بالتعليم الالكتروني، لكن العبور لضفة الصحة العامة والحفاظ على ديمومة التعلم، كانا هما البديل
المتاح.
 
ظاهرة جديدة
ويشير الدكتور عبد الواحد مشعل في مقالة له في  الشأن ذاته، الى أن اهمية موضوع التعليم الالكتروني تنبع من كونه يبحث في ظاهرة جديدة عرفها التعليم بالعراق بمختلف مراحله، وما تنطوي عليه من فوائد معرفية وعلمية في عصر تعدى اهتمام الانسان فيه خطوط الطول والعرض، واصبح العالم «يتفاعل»، لا سيما مؤسساته التعليمية عبر منصات التعليم
الالكتروني.