البحث عن دور الفن في جماليات المدينة العراقيَّة

ريبورتاج 2022/01/10
...

   صفاء ذياب
منذ أول نصبٍ أقامه السومريون على أرض الرافدين، كان الفضاء جزءاً رئيساً منه، هذا ما تبيّنه الخرائط المستوحاة من المدن السومرية، بدءاً من نفر، وليس انتهاء من أور قبل أن تبدأ المراثي تمثل على أرضها بعد الخراب الذي طالها على يد الأقوام اللاحقة، هذا الفضاء كان شريكاً أساسياً في النصب التي جاءت بعد ذلك في العصر الأكدي والبابلي، وليس أدل على ذلك أكثر من الزقورة - معبد الآلهة- وأسد بابل في ما بعد، ومن ثمَّ النحت المحكم للنصب الذي كان ميزة مهمة من ميزات النحت العراقي القديم.
 
 
ربَّما أثّرت الفجوة الزمنية بين تلك النصب والنصب الحديثة في جماليتها والأذواق التي تلقّتها، لكنّنا على الرغم من ذلك سنجد أعمالاً مهمّة لفنانين مثل جواد سليم وخالد الرحّال وحافظ الدروبي ومحمد غني حكمت، الذين أعادوا النحت العراقي إلى سابق مجده، بل كانوا روّاداً لفن جديد استلهم التراث وأسس لمدرسة فنية مغايرة.
غير أن العام 2003 فتح الأبواب لـ(مقاولات) لم تكن معروفة في الفن العراقي، هذه المقاولات التي غيّرت من رؤية الفنان أوّلاً؛ فأصبح تجارة لا فنّاً، ومن ثمَّ بدأت تؤثّر في التلقي وتذوّق الأعمال الفنية الهابطة من جهة، والأعمال التي توضع في أماكن غير صالحة للعرض ثانياً. وربّما ما أثارته الأسود التي كانت بعيدة عن فن النحت قبل سنتين مفتتحاً للحديث عن تدني الذوق العراقي، فضلاً عن الفضاءات غير الصحيحة للنصب، وهو ما بدأ الفنانون يتحدثون عنه بعد نقل تمثال الفراهيدي من حديقة الزوراء إلى ساحة الوثبة، التي عدّها الكثير فضاءً سيئاً لأعمال كهذه.
فما الذي غيّرته النصب الجديدة في التلقي الفنّي؟، وكيف يمكن لنا قراءة التشوّه البصري الذي يرى الكثير أنه متعمد لتشويه المدينة العراقية؟.
 
تلوّث بصري
يشير الفنان حامد سعيد إلى أنَّ التربيَّة الفنيَّة تعدُّ شكلاً مهمّاً من أشكال الحياة التي بدورها توازي التربية الأخلاقية، لذا تلجأ المجتمعات بكل مفاصلها ومؤسساتها لتعزيز الذوق العام لدى الفرد والمجتمع، من خلال تربية الذائقة الفنية وهي ذائقة بصرية يعتمدها الإنسان في بناء مدينته بيئياً وفنّياً كوسيلة يميّز من خلالها (القبح والجمال)، والمعايير التي يتبعها في هندسة شكل المدينة ومعالمها، تبدأ هذه الأسس من نظم الأشكال التي تتوسّط فضاءات المدن بشكل مادي ملموس- محسوس. أحد أهم هذه الأشكال هي (النصب والتماثيل)، التي تتوسّط حدائق ودورات المدن لتضفي شيئاً من المعرفة والجمال ضمن سياق فنّي متعارف عليه معاصر مواكب لحركة التشكيل الفني العالمي، وما يوازيه من تطوّر تكنولوجي وفني، وهذه أهم الخصائص التي تؤخذ بنظر الاعتبار إذا ما أردنا التطرّق في الحديث عن مدننا التي تخترقها فوضى الأشكال النحتية المنصوبة في قارعة الطريق والمؤثّرة سلباً بشكل كبير في التغذية البصرية وتربية الذوق العام لدى المواطن، وأسبابها عدّة من أهمها أنّه لا توجد دراسة ميدانيَّة فعليَّة لوضع النصب والتماثيل في الأماكن، التي تتناسب مع أحجامها وما يحيط بها من مبانٍ ممّا أثّرت بشكل كبير في مفهوم الفضاء الفني سلباً، لعدم معالجة المحيط بيئياً ليتناسب وأثره الفني في المشاهد. أيضاً لا يوجد تشخيص فعلي وفهم ووعي فني وإداري لدى المسؤول صاحب القرار في تشخيص قيم الأعمال الفنّية لتنفيذها، وربَّما يأتي بعضها عن طريق مقاولات لأشخاص بعيدين عن الواقع التشخيصي لتنفيذ نصب تتلاءم والنهوض بالذوق العام، فضلاً عن أن المدينة أصبحت فوضى في شكلها العمراني ممّا تسبّب بصرياً بعدمية أشكال النصب الموجودة حتى وإن كانت تحمل قيماً فنية حقيقية.
مضيفاً: التردي في الواقع الثقافي المؤسساتي ودوره أسهم بشكل كبير في تقبّل شعبية المبتذل واستسهال الفنون بشكل عام (الشعر، الرسم، النحت، الغناء، المسرح) وروّاده الطارئين، ممّا أدّى إلى تردّي الذوق العام الذي يوازي ما ينتج من ما يسمى بالفن. إذاً هناك عدّة عوامل مشتركة أسهمت بشكل كبير في تردّي الذوق العام في المجتمع ما أدى إلى حقيقة عدم الجدوى لوضع نصب وتماثيل وسط خرائب، لم تعالج فنّياً وإدارياً وربَّما هذه ظاهرة عمّت المجتمع بكل أصنافه، لتظهر نتائج أصبحت طبيعية بسبب التلوّث البصري لدى صاحب القرار من جهة والمواطن من جهة أخرى.
 
رقيبٌ غائب
يرى الفنان خالد المبارك أنَّ النصب والتماثيل تمثّل ذاكرة المدينة وسجلها الثقافي والمعرفي، ولا يمكن أن ننسى ما قدّمه فنانون مثل جواد سليم وغيره من جيل محترف تربّى على مبادئ وأسس أكاديمية مرجعيتها البوزار وفلورنسا، فانعكست إرهاصاتها بأعمال أكاديمية محترفة... أما بعد العام 2003 أخذ الفن منحى آخر، فأهملت الدولة النحاتين الذين لا يستطيعون تمويل أعمالهم لكلفتها العالية، وهذا واحدٌ من الأسباب التي ساعدت على ظهور أعمال هابطة شكلاً ومواد خاماً، بغض النظر عن أعمال قليلة تتعكز على جهود فردية، لهذا انتشرت أعمالٌ لا تليق بالنحت العراقي، بسبب عدم وجود الرقيب الاختصاص وغياب دور وزارة الثقافة، ممثّلة بدائرة الفنون التشكيلية والمنظمات المختصة بالفنون، مثل جمعية التشكيليين ونقابة الفنانين، التي كان لها الدور الفاعل بدعم الفنان وتسهيل مهمّة إقامة النصب والتماثيل بشروطها الفنية والجمالية.
وطالب المبارك بتأسيس لجانٍ من الخبراء تأخذ دورها الجاد لوضع الشروط الفنية لمشروعات كهذه تسهم في إبراز الجانب الجمالي والفني للمدينة مع الدعم المادي من الدولة، إضافة إلى عودة دور أمانة بغداد في صيانة الأعمال الفنية.
 
إخفاقٌ
يقول الفنان والناقد صلاح عباس: إنه على مدى تاريخ الفن العام، كانت النصب والتماثيل التي توضع في الأماكن العامة، تمثّل واقعةً أو حدثاً مجترحاً من الحياة اليومية، أو تكون بمثابة استلال من موضوعات الماضي البعيد أو القريب، بيد أن الأهم، يكمن في الجدوى والنظرة المستشرفة للغد، فكيف يكون ذلك؟ وبمجرّد متابعة بسيطة على التجارب المقدّمة في هذا المجال في العراق والعالم، سنكتشف أنَّ مؤهّلات النصب والتماثيل ينبغي أن تكون الأنموذج الفني المصاغ وفق قواعد الضبط الفني، من حيث توظيف المواد الخام الملموسة وكذلك صناعة الشكل المستوفي للأغراض الفنية والتعبيرية، ومدينة بغداد، هذه الحاضرة الثقافية الكبيرة، كانت تحتضن العديد من النصب والتماثيل المميزة، التي يقف خلفها فنانون كبار، وللأسف، فقد طالتها أيادي الجهل والعبث وحطّمتها معاول الكراهية، وعندما يقال عنها نصباً تذكارية، فذلك لأنَّها استحالت إلى صيغة ماضية.
ويعتقد عبّاس أنَّ موضوع النصب والتماثيل لا يمثّل قناعات راسخة ولا معتقدات ولا أيديولوجيات على الإطلاق، بل يمثّل حلقات مكمّلة للسلسلة التاريخية التي مرَّ بها البلد، واليوم حين نرى المستجد منها في بغداد وبقية المدن، نراها ضرباً من الاستسهال والتهريج، الذي لا ينتمي للفن لا من بعيد ولا من قريب، وأسباب هذا الإخفاق جليّة للجميع.
 
وعيٌ فني
وبحسب الفنان ياسين وامي، فإن النصب والتماثيل العراقية المنجزة بعد العام 2003 تشكّل صورة رمزية للبلاد وما وصلت إليه من انحدار ذوقي واندحار ثقافي، وهي أيضاً تمثيل عياني لتدنّي المدنية وتراجع الإنسان في فهم وجوده وبيئته، فالنصب الفنية خلاصة الهوية الجمالية للمكان والذاكرة الحيّة التي تُعرّف المدن وتعزّز قيمتها والبؤرة الحضارية، التي تمركز الجغرافيا المدينية والحركة البشرية الفاعلة، وما أُنجز من نصب خلال الفترة المذكورة إنما هو عمل مقاولين وأشباه فنانين لا يمتلكون أدنى فكرة حول أهمية النصب وقيمتها العظيمة، وينعدم عندهم الشعور بالمسؤولية الجسيمة إزاء صناعة الوعي البصري والرمزي وبناء الصورة الجمالية لعالمنا المتداعي. أغلب هذه النصب؛ إن لم يكن جميعها، أسهم بتشويه الذوق العام وتخريب المدن وإزاحة ما تبقّى من رواسب الانتماء والمواطنة.
 
فكرة التحريم
ويتحدّث الفنان هاشم تايه عن مدينة البصرة، التي يرى أن الأعمال المنفذة فيها ضئيلة جداً، إلا أنّ معظمها جاء بمستوى فنيّ متواضع، إن لم نقل هابطا، لا يستوقف عيناً، ولا يُثير انفعالاً جمالياً مفترَضاً، ولا يكترث لطبيعة الفضاء والحيّز المكانيّ المحيط، وتأثيراتهما المفترضة في الشكل البنائي للأثر النحتيّ الذي سينتصب فيهما. وفي ظلّ هيمنة أيديولوجيا الأحزاب المصمَّمَة على مصادرة الفضاء المديني العام، وللضغط على عناصر الحياة الحديثة، وتقليل فرصها في التعبير الطليق عن روحها المتطلّعة، في ظل ذلك لم يكن متوقّعاً تدعيم المجال العام بأعمال نحتيّة جديدة، رصينة، تعبّر عن رؤية فنيّة معاصرة لنحاتين طلقاء الخيال، والوعي، والأيدي، ناهيك عن إشاعة فكرة تحريم التمثيل الحرّ للجسد الإنساني، لا سيّما الأنثوي، هذا التحريم الذي أطاح بعدد من النصب والتماثيل الجميلة المنجزة قبل العام 2003 لمجرّد احتفائها بالجسد عارياً. وللأسف خضع (النحّاتون الجدد) لمطالب الجهات التي كلّفتهم بإنجاز تمثال هنا، ونُصب هناك، ولشروط تصوّرها المتخلّف عن الفن، فأنجزوا أعمالَ نحتٍ هي عبارة عن ملصقات، وشعارات نحتيّة مباشرة عديمة الخيال، وقد أضحت، جميعها، موضوعاً للتندّر والسّخرية.