في كل ركن من بغداد متنفس وأمل

العراق 2019/03/11
...

قاسم عبد الزهرة/عن وكالة اسوشيتد بريس ترجمة / انيس الصفار           
 
 
 
 
شهد الحي التجاري الرئيس في بغداد عمليات تفجير تجاوزت قدرة أي من سكانه على عدها، فخلال فترات الحروب كان الموت زائراً شبه يومي، ومعظمها ميتات شنيعة مرعبة.
في العام 2015 مثلاً مزق تفجير انتحاري مجمعي تسويق بعملية انتحارية فأسفر عن قتل اكثر من 300 شخص.

لكن اهالي حي الكرادة بدؤوا يلمسون على مدى السنة الماضية، أو نحو ذلك، أن الحياة الطبيعية آخذة بالعودة اليهم اكثر من أي وقت خلال عقود.
شوارع هذا الحي تصطف على جوانبها اليوم أكشاك الطعام وتموج بالمتسوقين في حين تبقى المقاهي والمطاعم مكتظة بمرتاديها الى وقت متأخر من الليل.
أما الحواجز الكونكريتية الواقية من الانفجارات التي كانت تحمي الناس من من أعمال التفجير فقد ذهبت كلها.
تقول رسل محسن، وهي معلمة تبلغ من العمر 33 عاماً، بعد أن اتخذت مقعداً قرب مدخل احد المحال التجارية وجلست ترشف قهوتها: “كان كل ما افعله في يومي هو الذهاب الى مدرستي ثم  العودة الى البيت .. ولا شيء غير ذلك.
وإذا ما قصدت مطعماً حرصت كل الحرص على أخذ مقعد في أبعد ركن عن اية نافذة خشية انفجار سيارة مفخخة فيصيبني الزجاج المتطاير.”
لأول مرة منذ 15 عاماً يخلو العراق من اية حرب او حركة تمرد ذات وزن، وهزيمة تنظيم “داعش” في اواخر العام 2017، بعد حرب مدمرة استمرت أربع سنوات، منحت العراقيين فسحة ومتنفساً.
وبرغم التحديات الكبيرة التي لا تزال على الطريق ثمة شعور بالامل يسود العاصمة، ولو أنه أمل لا يخلو من حذر.
انفجارات السيارات المفخخة، التي غدت نهجاً معتاداً بعد الغزو الاميركي في 2003 وجعلت اسم العاصمة العراقية مرادفاً لكلمة حرب، قد توقفت .. حالياً على الأقل .. ورفعت ألوف الحواجز الكونكريتية التي كانت تمتد وتتلوى عبر شوارع المدينة لحماية سكانها من تفجيرات الارهابيين وسياراتهم المفخخة فخف ضغط الزحام.
يقول العميد يحيى رسول المتحدث باسم الجيش العراقي ان الوف الحواجز قد جرى رفعها ونقلها الى رقعة ارض عند اطراف المدينة، ومن المحتمل ان يعاد استعمالها مستقبلاً لإحاطة بغداد بها من اجل حمايتها من عمليات التسلل.
كذلك فتحت اجزاء من المنطقة الخضراء المحصنة على ضفاف نهر دجلة أمام عامة الناس، بما في ذلك الطريق المؤدي الى نصب “قوس النصر” الذي يعد من معالم المدينة البارزة (وهو قوس يبلغ ارتفاعه 40 متراً مكوناً من سيفين تمسك بهما قبضتان من البرونز مصبوبتان على هيئة يدي الدكتاتور السابق صدام حسين احياء لذكرى الحرب العراقية الايرانية).
أسست الولايات المتحدة المنطقة الخضراء في العام 2003 لتأمين الحماية لسفارتها ولمؤسسات الحكومة العراقية، وعلى الجانب المقابل من النهر ازيلت الحواجز ايضاً التي كانت تسد شارع الرشيد، وهو اشهر شوارع العاصمة وأقدمها ويمثل مركزاً ثقافيا معروفاً بطراز العمارة العراقية والبيوت العتيقة المتداعية، فعادت تسري فيه حركة السيارات والسابلة بعد اغلاق دام 15 عاماً بسبب التهديدات الامنية.
وعلى جبهة النهر تنتصب بناية البنك المركزي الجديدة، التي وضعت تصميمها المعمارية عراقية المولد زها حديد.
هذه البناية لا تزال تحت الانشاء حالياً ومن المتوقع ان تكتمل في السنة المقبلة.
يقول دبلوماسي غربي ذو علم بشؤون بغداد: “تشعر المدينة اليوم بأنها في أفضل حال منذ العام 2003.”
رغم هذا يواجه البلد تحديات جسيمة.
فجماعة “داعش”، التي توشك على فقدان آخر أشبار لها من الارض داخل سوريا المجاورة، عادت تزحف متسللة الى العراق، وبذا تصاعدت في المناطق المحيطة ببغداد وشمال العراق وتيرة الهجمات على نمط عمليات التمرد. 
رغم هذا يأمل كثيرون ان العراق قد تجاوز المنعطف الحرج بعد سنوات من الدم.
في حي الكرادة يغص بالمتسوقين اليوم مركز الهادي، الذي كان موقع التفجير الانتحاري في 2015 حين حوصرت أعداد من الناس طيلة ساعات داخل أتون مشتعل تسبب في مقتل 300 شخص، وقاعات الطعام تزدحم بالشبان واليافعين من صغار السن.
أما مركز الليث التجاري المجاور له فلم يكن هنالك بد من ازالته بالكامل ثم إعادة بنائه من الصفر، وهو اليوم على وشك الاكتمال.
يقول عاصم غريب، وهو صاحب محل للمعجنات والايس كريم، انه كان يضطر الى استئجار من يراقب له الشارع في الخارج ليمنع وقوف السيارات قبالته.
ثم يمضي مستطرداً: “كان يتملكني الخوف كلما اقتربت سيارة متخيلاً انها ربما تكون مفخخة او أن سائقها انتحاري.
اما الان فإنه العكس تماماً، لأننا نشعر بالسرور كلما أتت سيارة ووقفت قبالة المحل.”
شعور الاطمئنان والثقة هذا بقي بعيداً عن منال العراقيين طيلة 15 عاماً. 
فالبلد كان يعيش حالة حرب، بصورة أو اخرى، لفترة امتدت أكثر من عمر جيل كانت بدايتها هي حرب السنوات الثمان بين العراق وإيران، التي انتهت في العام 1988، ثم اعقبتها حرب غزو الكويت في 1990 فالتدخل العسكري اللاحق من قبل الولايات المتحدة.
لكن اشرس سفك للدماء ترافق مع الغزو الذي قادته أميركا للعراق في العام 2003، ذلك الذي أصبح نقطة انطلاق لحركة تمرد وعنف طائفي تولى قيادتها تنظيم القاعدة الى ان عمت البلد كله واسفرت عن مقتل عشرات الالوف من العراقيين.
كان عدد التفجيرات خلال تلك الفترة يصل الى 10 يومياً.
بلغ العنف ذروته عندما استولى تنظيم “داعش” الارهابي وهو تفرع من تنظيم القاعدة، على مدن عراقية معلناً قيام دولة خلافته على اجزاء واسعة من العراق وسوريا.
تسبب ذلك في حدوث ازمة نزوح وهجرة جماعية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق، حيث فر ملايين الناس تاركين منازلهم بوجه زحف الجماعة الارهابية السريع.
ثم فر آخرون عندما ردت القوات العراقية، بدعم من الولايات المتحدة وإيران، الى ان تمكنت في نهاية المطاف من استعادة آخر المدن في اواخر العام 2017.
يقول بشار علي، وهو صاحب محل في شارع الكرادة عمره 33 عاماً، انه قلق من عودة ارهابيي”داعش” من سوريا ومن حالة انفلات القانون خارج المدينة، بما في ذلك اعمال الاختطاف والقتل. يختتم بشار حديثه قائلاً: “بغداد مثل بيتي.
إني أشعر بالامان داخل بيتي ولكني سرعان ما افقد هذا الشعور بمجرد خروجي منه.”