الشعريّة بوصفها تكريساً لأنطولوجيا الوجود

ثقافة 2019/03/12
...

د. رسول محمد رسول
 
في ثقافتنا العربية، تعرّفنا إلى البلاغي جان كوهن المولود في وهران سنة 1919 والمتوفى في فرنسا سنة 1994 من خلال كتابه (بنية اللغة الشعريّة) الصادر في باريس سنة 1966، لا سيما بعد أن نُقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية سنة 1986 بترجمة محمد العمري ومحمد الولي، لكن كوهن لم يحصر رؤاه حول الشعريّة (poéticité) في كتابه ذاك؛ بل أردفه في سنة 1979 بكتاب تالٍ عنوانه (الكلام السامي.. نظرية في الشعريّة) = (Le haut langage théorie de la poéticité)، وهو الكتاب الذي وجد طريقه للنشر مُترجماً صوب العربية من جانب الدكتور محمد الولي في سنة 2013، الكتاب الذي تبنى كوهن رؤية حول الشعريّة أكثر دقة ويقين مما ورد في كتابه السابق - بنية اللغة الشعريّة - لا سيما أن كوهن لم ينشر سوى هذين الكتابين في حياته باستثناء مقالات متفرّقة هنا وهناك.
في جانب من هذا الكتاب الأخير، أقرّ كوهن بضرورة انتقال الشعريّة من الكلمات إلى الأشياء ومن الكلمات إلى الأشياء، وها هنا نلمس ميلاً نحو ما هو أنطولوجي، خصوصاً أن هكذا فكرة أبداها كوهن في الفصل الأخير من كتابه (الكلام السامي...) على نحو مكثّف، الفصل الذي حَمل عنوان "العالَم". 
 
الشعريّة والعالَم
وهذا الانتقال من الكلمات إلى العالَم، عززه مُفتتح هذا الفصل عندما قال كوهن: "بما أن الشعريّة تنسب إلى العالَم بقدر ما تنسب إلى النص، فإن النموذج النظري - الذي ابتناه كوهين لنفسه - ينبغي له أن يبرهن على صلاحيته لنقله إلى الشعر خارج اللغوي فينبغي للشعريّة أن تبين أنها قادرة على الانتقال من الكلمات إلى الأشياء، وعليها أن تتبع الشعر في حركته التاريخية التي نقلته - منذ الرومانسية إلى السورياليّة - من الورق إلى الحياة" (ص 259). 
في هذا المسعى، ينهج كوهن طريقة تفترض قيمة أنطولوجية تنحى إلى اعتبار الشعريّة أساس أنطولوجي رغم أن كوهن ينفي وجود هذه الأنطولوجية، ولكن عندما نقرأ ما يقوله على سبيل المثال: "إن الشيء ليس شعرياً بفضل محتواه، وإنما هو شعري بفضل بنيته، بقدر ما يملأ كامل المكان الذي يسكنه" (ص 259)، فالمحتوى قد يكون طارئاً لكن البنية أساسية في أنطولوجيتها، وهذا يدل على أن بنية المكان حائزة على شعرية أساسية تسمها كصفة لها، لكن كوهن الذي عاش عمراً طويلاً يتعالى، في بداياته، على معاصره مارتن هيدغر (ت 1976)، حتى إنه لم يفيئ إلى البُعد الأنطولوجي في الأشياء كثيراً فعبر مسرعاً إلى عالّم السرد وأهمل إشباع رؤيته بما هو أنطولوجي ليتدارس الرواية البوليسية التي تعتمد مقولة "السر"، وهو عبور كما لو كان هروباً من تكريس رؤية فلسفية عميقة إلى سطحية تبنّاها في البداية فحسب وهو ما كنتُ أتمناه لكوهن السقوط في حبائل ذلك.
 
الرواية "السر"
ومهما يكن شكل الهروب، يبقى كوهن لذيذ التحليل، ويبقى في صميم الفلسفة المعاصرة، لا سيما أنه يقدّم رؤية تحليلية رائقة لمحبي السرد الروائي، فالرواية البوليسية قوامها "مقولة السر" (ص 260)، وهذا السر هو الذي "يُكسب الرواية فتنتها" (ص 262)، والحكاية في الرواية البوليسية هي "حكاية مفهومية" بحسب فهم كوهن، قوامها الانتقال "من الجهل إلى المعرفة"، وبطلها على الدوام نراه يتعرّف، ولذلك يصفه كوهن بأنه "بطل فكري" (ص 261)، بمعنى أنه هو بطل الاحتمال الروائي.
يتوغّل كوهن بتعداد سمات الرواية البوليسية، فالإضافة إلى أنها رواية "لغز"، يراها أيضاً رواية "غموض"، وهذا الغموض هو "قانون هذا الجنس الأدبي ودعامته الشعريّة" (ص 262)، ويعوِّل كوهن كثيراً على "السر"، فهذا السر هو "الذي يشكِّل النص أما التحقيق فهو الذريعة" (ص 263). وفي هذا السياق يمتشق كوهن تعبيراً مركّباً ليعود إلى مفهوم "البنية" - مرّة أخرى - لكنها بنية الجنس الروائي، فينبغي، يقول كوهن: "دراسة بنية السر لأجل تفسير طاقته الشعريّة" (ص 263).
يجد كوهن نفسه منصاعاً إلى مارتن هيدغر عندما يقول: "الرواية البوليسية تصف عالم الرعب حيث الكينونة في العالم هي كينونة – في – خطر" (ص 267). وهذا التقطيع في العبارة هو تقطيع هيدغري ألفناه عنه في غالب مؤلفاته بوصفه تقطيعاً أنطولوجي الأسلوب سيعود له كوهن في الصفحة 279 من كتابه (الكلام السامي..) عندما يستخدم تعبير "الوجود - في - العالم".. 
 
شعريّة الشبح والإطار
يبقى كوهن في العالَم لينتقل، مرّة أخرى، إلى العلاقة الحميمية بين الشعريّة والمكانيّة عبر دلالة مفهوم "الشبح"، ويقف عند تجربة سيمون دي بوفوار (ت 1988) في (المدعو) لسنة 1943، فالشبح "ليس مغروساً في الأرض، إنه يوجد في الآن نفسه بمكان آخر، إنه حدْس حاد بالعلاقة الحميمية بين الشعريّة والمكانيّة" (ص 268). ويضيف: "يستطيع الشبح أن يوجد في أيّة لحظة، في أي مكان، ولهذا فهو يوجد فينومينولوجيا في كل الأماكن، إنه يحتل، احتمالياً، كل المكان كما يحتل كل الزمن. إن الحضور الشبحي يغمر المكان الكلي، وهكذا يصبح العالَم كله شبحيا" (ص 268). ولنلاحظ أن كوهن يستخدم ملفوظ "فينومينولوجيا"، كما أنه يستخدم ملفوظ "المكان الكلي"، ولكن من دون دلالة أيّة ميتافيزيقية تُخرج المعنى من ما هو أنطولوجي.
ولما ولج كوهن التفكير الفينومينولوجي، نراه يربط بين المكانيّة والإدراك الإنساني للون الأحمر - على سبيل المثال - فيقول: "إن لطخة حمراء لا تُدرك بوصفها كذلك إلا إذا كانت تتميز على أرضية تتصف في الآن ذاته باعتبارها ملوّنة، وباعتبارها غير حمراء". وبذلك، يقول كوهن: "نقبل بوجود تشاكل بين الإدراك والكلام" (ص 270). 
إن هذا التكريس، سيقود كوهن إلى علاقة الإنسان بالشيء والعالَم، مرّة أخرى، فالشيء "يتشكَّل فينومينولوجياً انطلاقاً من اختلافين؛ أحدهما مع الذات والثاني مع العالَم"، وهذه الاختلافات - بحسب كوهن - مترابطة؛ فالشيء "ينفصل عن الذات فقط في حدود تميزه عن العالَم" (ص 271).
يريد كوهن بنماذج التحليل هذه التأكيد على تجانس المكان أنطولوجياً، ولكن من دون أي تجانس مُطلق، وبرغم إن كوهن يتحدَّث عن "كليّة حقيقية" نراه يتحدَّث أيضاً عن "تجانس المجال" لكي ينأى عن أي فهم ميتافيزيقي مفارق، فأيّة صورة منسجمة "ليست كُلية إذا كانت تتعارض مع الأرضية، إنها لا تكون كذلك إلا إذا كانت تمتزج معها. وهناك إذن بنيتان للمجال أو المحيط: بنية إطلاقية وغير تمييزية ترتبط ظاهرياً بالمعرفة العاطفية، وبنية تُشكِّل طرفاً يرتبط بالمعرفة المفهومية" (ص 273)، وبين العاطفة والفهم ثمَّ ربط بين الذاتي والموضوعي أو قل: بين الإنسان والمعرفة في العالَم.
إن تأكيد كوهن على "المجال"، وكذلك على "المحيط" لهو الفهم الأنطولوجي للأشياء والمعاني والأفكار والمشاعر، لا سيما هو القائل: إن "كل صورة تمتلك، في حدِّ ذاتها، محيطاً يتنسب إليها" (ص 272). فما هو موجود على الورق وعبر الكلمات هو موجود في الأشياء وفي الحياة؛ بل العالَم الأنطولوجي.