التحوّلات المدينية في الرواية العراقية

ثقافة 2019/03/12
...

د. نجم عبدالله كاظم
 
في الارجاء الادبية اسمع الكثير من الكلام عن مستقبل القصة القصيرة الذي يلفه الغموض امام تسيّد الرواية،احاديث مختلفة عن تراجع القصة ونكوصها وتحول الكثير من كتابها الى الرواية وهو الامر الذي يثير الكثير من الشجون التي اهم تساؤل فيها هو: لماذا؟ ومنه استطلعنا رأي عدد من الادباء .
( 1 )
    لقد كانت الملحمة، بحسب هيغل، تعبيراً ملائماً لنمط عيش المجتمعات القديمة التي كانت تؤمن بوجود قوى خارقة تتجاوز الطبيعية وتؤثر في مصير الإنسان، فعبّرت عن روح تلك المجتمعات، فأخذت تسرد الصراع الدرامي بين هذه القوى الغيبية وإرادة الإنسان. لكنّ الإنسان في عصور متأخرة لم يعد يؤمن بوجود هذه القوى الغيبية وتلك الأرواح القادرة على تسيير حركة الإنسان والطبيعة، وبالتالي لم تعد تلك الملاحم لتلائم وعي الفرد والمجتمع الحديث، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور "نمط جديد من السرد يتسق مع معطيات واقع العصر الحديث وقيمه"، فكانت الرواية.
    معروف قول لوكاش بأن الرواية ملحمة البرجوازية، وإذا كانت الملحمة كما رأينا "الصورة التعبيرية عن الوعي في المجتمع القديم"، فإن الرواية هي الصورة التعبيرية الملائمة لحالة الوعي في المجتمع الحديث، حيث ظهرت مع الثورة الصناعية وصعود هذه الطبقة البرجوازية، في المجتمع الأوروبي الحديث، وهو بشكل خاص مجتمع المدينة، لتكون الأسلوب الذي يعبر ذلك المجتمع، من خلاله، عن قيمه ونمط عيشه. وبعد أن كانت الملحمة ملحمة الطبقة الارستقراطية وربما الإقطاعية، فإن الرواية صارت ملحمة الطبقة البرجوازية والتي من خلالها عبرت فيها هذه الطبقة عن نفسها ونمط حياتها، كون الشعر الملحمي، لم يعد يستطيع مجاراة إيقاع الحياة الحديثة وتسارعها المطرد، بينما جاء السرد الروائي قادراً على إعطاء صورة بانورامية للحياة الحديثة وأنماط التبادل والعلاقات بين أفراد المجتمع الحديث من دون إحالات غيبية أو تدخّل لقوى خارقة خارج الطبيعة. كل ذلك يعني بالضرورة أن الرواية ابنة المدينة والمجتمع المديني.
 
( 2 )
وهكذا كان من الطبيعي، وهي تكاد تكون لسان الطبقة البرجوازية، وتبعاً لذلك المدينة والمجتمع المديني، أن تحضر المدينة في الرواية، والسرد عموماً. ولكن ماذا يحضر من المدينة فيها؟ هنا لنعرف بدايةً أن المدينة، في ديناميكيتها وتطورها الدائم، تتوافق مجتمعاً وأفراداً مع الحركة الدائمة، والمتغيرات، والتعددية، تعددية المرجعيات الثقافية والرؤى ووجهات النظر، بل بُعد النظر وسعته، إزاء الثبات، ووحدة الرؤية والصوت، ووحدة المرجعية الثقافية في مجتمع القرية والريف. وكل ذلك يعني ملاءمة المدينة للرواية، وملاءمة القرية والريف للشعر مثلاً، ليكون الشعر فن القرية والريف، والرواية فن المدينة. بتعبير آخر، لما كان مجتمع المدينة بطبيعيته أكثر أنواع المجتمعات تجدّداً وعرضةً وتقبّلاً للتغيّر والتغيير واستجابةً للتحوّلات، فقد كان من الطبيعي أن تُعنى الرواية، وهي الفن القائم على التعدد والتغيير والتحول، بهذه التجدّدات المدينية والتغييرات والتحوّلات فيها. 
ولعلنا نكون أكثر دقة حين نقول : إن الرواية لم تُعنَ بالمدينة ذاتها، بل بالتحولات، على مستوى العمران والفرد والمجتمع، في المدينة. فالتحولات المدينية، كما تترك أثرها بشكل خاص في السلوكيات وأنماط التفكير والأوضاع النفسية للفرد، فإنها لا تكاد تغيب عن روايات جل روائيي العالم، بل نزعم أن ما من رواية يمكن أن تنجح أو تقنع بما تقدمه إنْ لم تفعل هذا، لكن هذا يكون في روايات أكثر منه في رويات أخرى، كما هي حال بعض روايات فوكنر، وجل أعمال جويس، وأكثر وضوحاً جل روايات همنغوي، وجميع أعمال كافكا. والأمر نفسه ينطبق على الرواية العربية، كما يمكن رصده بسهولة في جل روايات نجيب محفوظ إن لم تكن جميعها، وروايات واسيني الأعرج، وبعض روايات جبرا إبراهيم جبرا، وسحر خليفة، وغالب هلسا، وغيرهم.
 
( 3 )
    وحين نتحول إلى الرواية العراقية، لن نجدها استثناءً من هذا الإعمام الصحيح إلى حد كبير، فهي كانت دوماً مستجيبة للمتغيرات والتحولات الاجتماعية والفردية في المدينة، بل قبل ذلك حتى العمرانية، التي عادة ما تترك إثرها في المجتمع والفرد والعلاقات وكل ذلك خصوصاً لما شهده المجتمع العربي، من تحولات ومتغيّرات، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والخمسينيات ولحد الآن. إن استعراضاً انتقائياً أو عشوائياً، على حد سواء، للروائيين العراقيين والروايات العراقية، يكشف عن مدى ظهور وفعالية التغيير والتحولات في المدينة لدى الروائيين العراقيين، كما هي الحال لدى فؤاد التكرلي، في "المسرات والأوجاع"، وعبد الرحمن مجيد الربيعي في "هناك في فج الريح"، وخضير عبد الأمير في "هذا الجانب من المدينة"، ولطفية الدليمي في "عشاق وفونو غراف وأزمنة"، ومحي الدين زنكنه، في "بحثاً عن مدينة أخرى"، وعلي بدر، في "بابا سارتر"، وسعد محمد رحيم في "ظلال جسد ضفاف الرغبة"، وميسلون هادي: في "العيون السود"، وسنان أنطون في "يا مريم"، وبرهان شاوي، في "مشرحة بغداد"، وهدية حسين، في "ريام وكفى"، ولؤي حمزة عباس في "مدينة الصور"، وإنعام كجه جي في "النبيذة"، وأخيراً غائب طعمة فرمان، في جميع رواياته. 
وعند فرمان أولاً، ورواية حديثة لروائي متأخر نتوقف وقفتنا الأخيرة. 
    إذن جل روايات غائب طعمة فرمان تعاملت، لا مع المدينة مجرّدة بل مع التحولات والتغيرات في المدينة العراقية وتحديداً بغداد، إذ لا تكاد تخلو رواية من رواياته من هذا، ولكن أكثرها فعلاً له كانت "النخلة والجيران" و"المخاض"، والأكثر والأعمق على الإطلاق "ظلال على النافذة". فالأخيرة قامت أساساً على التحوّلات والتغيير ولكن بتجسّدهما في عائلة بغدادية. وهو ما صرح به فرمان نفسه أيضاً حين قال لي "أنا كنت أحاول في (ظلال على النافذة) تصوير عائلة عراقية بحتة انتقلت من حيها القديم، ولكنها أخذت معها إلى الحي الجديد كل تقاليدها." فماذا نتج عن هذا؟ والواقع أن الرواية تقدم تأثير هذا التحول وما يحلمه من تغير وتغيير في شخصيات العائلة، كما مثّلها فرمان في علاقاتها بزوجة أحد الإخوة (حسيبة) التي تهرب من الببيت لأسباب لسنا بصددها هنا، وهي قد ترمز إلى بغداد، ولا أجزم في هذا، فالأخ الأول (فاضل) الذي يرتبك وضعه تماماً في ظل التحول وإنْ عُلل سردياً بهروب زوجته (حسيبة) التي يحبها جداً ولا يستطيع العيش بدونها، و(ماجد) الأخ المثقف تضطرب علاقاته مع الجميع، وقد يُفسر بسبب ما جلبه التحول والتغيير على الآخرين من تغيّرات، أما الأخ الثالث (شامل) فهو مادي وكأنه يعبر عن طبيعة المرحلة.