دكتوراه فخرية كاذبة وجوائز لا وجود لها

ريبورتاج 2022/02/14
...

   صفاء ذياب
(تمنح إدارة...... للأدب والثقافة شهادة الدكتوراه الفخرية للأديب ...... وذلك لأعماله الأدبية المتميّزة).
بهذه الصيغة أصبح أكثر من نصف الأدباء والفنانين العراقيين يحملون الدكتوراه الفخرية، هذه الدكتوراه التي كانت تمنح من جامعات عريقة لما يقدمه أديب أو عالم أو مخترع لإنجازه الذي غيّر من ملامح الحياة في مرحلة من المراحل، غير أننا نلاحظ قيام عدد من المجموعات على الفيسبوك بمنح الدكتوراه الفخرية لكل شخص ينشر عندها، حتى لو كان كاتباً مبتدئاً لا يملك أي مقومات ليكون كاتباً، لا لغة، ولا أسلوباً ولا أفكاراً.
وبعيداً عن هذه الـ (لا) دكتوراه، لم يعترض عدد من الأدباء على مناداتهم بـ (دكتور)، ولم يصححوا لمن يقابلهم بهذه الصفة، على الرغم من أن بعضهم- حسب ما نعلم- لا يمتلك حتى شهادة بكالوريوس، فما الذي يمكن أن تضيفه هذه الصفة للأديب؟ وكيف نقرأ هذه الظاهرة؟.
 
عارض مَرضي
يرى الدكتور محمد عطوان، أستاذ العلوم السياسية في كلية القانون بجامعة البصرة، أن هذا النوع من الشهادات كان يُعطى للأشخاص الذين يُقدمون خدماتٍ للإنسانية في أنشطة شتى، ويكون لأعمالهم تأثير كبير في الواقع، ومعلوم أيضاً أنَّ هذا النوع من الشهادات غير خاضع للمعايير الأكاديمية من إجراءات بحث واستقصاء معرفي لأجل بلوغ الدرجة المعهودة.
ويضيف عطوان: الواقع أنَّ في العراق سعياً محموماً لامتلاك كل شيء والالتصاق بكل شيء، وهذا السعي هو نوع من التعويض الغريب لحاجات نفسية لم يحقّقها المرء في حياته ويودُّ تحقيقها، وبالطبع ليس هنالك أكثر سهولة من تحقيقها في هذا البلد، (مناصب بالمحسوبية، وتجارة خارج المعايير القانونية، وشهرة إعلامية شعبوية فجّة، وشهادة عالية بمعايير متاحة وميسورة، بصرف النظر عن الطريقة التي يتم فيها تحقيق ذلك، فهذا البلد- بعد الصدع الكبير في المنظومة الأخلاقية جراء غياب الدولة - لا يقف وراءه حسيب ولا رقيب، وبالتالي من السهل ظهور فعاليات مدنية تتبناها جهات متعدّدة، وإن كانت هذه الجهات غير رصينة أو غير معلومة، من ثم تتكفّل بمنح هذا النوع من الشهادات، برغم عدم أهليتها مقارنة بسواها من الشهادات الأكاديمية التقليدية، فأهمية هذه الشهادات أنها تسهم في سد نقص نفسي لكثير من الأشخاص المحتاجين إلى تعويض ما فاتهم من فرص.
وهذا الأمر مستفز نتيجة لإشاعة هذا النوع من الممارسات، فمنح الشهادة وإن كانت شرفية بات يعطى للأشخاص في غير محله وليس للغرض الذي كانت تعطى لأجله، لذلك أحسب أنَّ قبولها وشيوعها عرض مرضي من أعراض متعدّدة أصيب بها الجسد الاجتماعي العراقي، لاسيما وقد علمت مؤخراً بأن طريقة الحصول عليها تتم لقاء مبالغ تُدفع للجهات التي تمنحها، وبالتالي منحها هو من قبيل التربح الرخيص الذي يتلبس رداءً ثقافياً ومعرفياً، وهو ادعاء ثقافي ومعرفي لا أصل له.
 
جهات مجهولة
وبحسب الدكتور وسام حسين العبيدي، أستاذ الأدب الحديث، فلم تكن المشكلة في ماهية شهادة (الدكتوراه الفخرية) بقدر ما كانت المشكلة في آليات منحها، فضلاً عن الجهات التي تصدر عنها هذه الشهادة، فإذا عُدنا إلى اللوائح القانونية التي شرّعت منح هذه الشهادة، لوجدنا ثمة ضوابط غاية في الدقّة لمنح هذه الشهادة، من بينها أن تكون الجهة المانحة، معترفاً بها في منح الشهادة العلمية للدكتوراه، ثم يُجاز لها بعد ذلك منح (الفخرية) كذلك إن كان الممنوح تتمثّل فيه ضوابط (علمية، إنسانية، أدبية، سياسية) تؤهله لنيل هذه الشهادة، وتحظى تلك الضوابط بقبول علمي في تلك الجامعة المانحة، فضلاً عن نيله أغلبية في القبول الشعبي أو النخبوي، فمثلاً نجد في أوائل التسعينيات، أنَّ جامعة عريقة في بريطانيا مثل جامعة كامبريدج منحت (جاك دريدا) شهادة الدكتوراه الفخرية، ومع أهمية ما طرحه جاك دريدا من نظريات تفكيكية في المجال الفلسفي، إلا أنَّ هذا الأمر لم يرق لكثير من الأوساط العلمية في بريطانيا، ومقارنة مع الشأن العربي، نجد لا مقارنة بين ما حصل لديهم، حين تمنح جهة مجهولة الانتساب الأكاديمي والعلمي، الدكتوراه الفخرية للمطرب المصري محمد رمضان، وهنا المعضلة، حين تتصدى جهات مجهولة بمنح هذه الشهادات لمن لا تتوفر فيه أبرز المؤهلات العلمية والأدبية!.
 
حمى الألقاب
وأول ما يستوقف الروائي سعد سعيد أمام هذه المظاهر حين يراها أو يفكّر بها، سؤال واحد، ما جدوى هذه الأشياء بالنسبة إلى من يتداولون بها؟ ويأتي الجواب سريعاً، فهي حاجة للبعض لاستمالة أكبر قدر من الناس لمصلحة مشروع وجد ميتاً منذ البدء، لأنَّه لم يحز شروط وجوده أساساً، أما الذين تطلق عليهم تلك الألقاب ويفرحون بها، فالواضح أنَّهم يعانون من حاجتهم إلى ألقاب علمية قد تضيف على شخصياتهم شيئاً، ولأنَّهم غير قادرين على حيازتها، فإنَّ هذه الألقاب المزيّفة قد تسدّ جزءاً من حاجتهم غير المشبّعة.
أما عن الجوائز الأدبية فارغة المعنى التي تمنح على صفحات الانترنت، فيعتقد سعيد بأنها جزء من ظاهرة الحمى التي انتابت الوسط الأدبي في العراق والتي جعلت الكتّاب، وحتى غير الكتّاب، يلهثون على الصفحات المكتوبة طمعاً بجائزة، والمحيّر في أمر الجوائز الانترنيتية أنَّ الأخرى بها مكسب مادي أحياناً في الأقل، فعمَّ تبحثون أنتم؟!.
 
سذاجة الألقاب
ويشير الشاعر والمترجم عبود الجابري إلى أن ما يحدث في هذا المجال محزن جداً، منصّات بائسة يديرها أنصاف مثقفين، يصدّقهم أنصاف أدباء ولا أحد يعرف المعايير المعتمدة في منح هذه الشهادات، والأغرب من ذلك هو صورة البهجة التي نراها على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل من يحصلون على مثل هذه الأوراق، ومنهم من يصدّق أنّه قد حصل على شهادة الدكتوراه الفخرية على سبيل المثال، (فيدكتر) نفسه، و(يدكتره) بعض السذج من أصدقائه، والأنكى من ذلك هو السيل العارم من التهاني والتبريكات التي يتلقاها هؤلاء، ويحدث كلُّ ذلك في غياب الجهات الرقابية التي من شأنها أن تضع لوائح تنظّم مثل هذه الفوضى.
ويضيف الجابري: من ناحيتي أطالب بتعرية المؤسسات التي تقوم بتكريس مثل هذه المهازل، من خلال تناولها من النواحي القانونية والثقافية، عبر المطالبة بالكشف عن الوثائق التي تثبت شرعية ما تمنحه من شهادات والصلاحية الممنوحة لها والجهات التي خولتها بالقيام بذلك.
 
كوميديا سوداء
ويبين طالب الدكتوراه في الأدب العربي محمد فاضل المشلب، أنَّ نوعاً كهذا من الشهادات لا اسم لها، ولا قيمة معرفية، إذ من المفترض أن تكون الجهة المانحة لها شأنها الأكاديمي الحيوي والرصين، والمعروف على امتداد الوسط العلمي الدولي أو الإقليمي في أقل طموح، لكن وبما أنَّ (العقليات المتخلخلة) صارت تتكاثر عمّا سبق من أزمنة عربية، فصار كلّ من تناثرت خربشاته في الصحف أو بهيئة كتب تصدرها دكاكين النشر صار يطمع بعبور عتبات تجعله (دكتوراً/ دكتورةً) لم يقدر على نيلها من دون جهات مستحدثة وبجغرافيات بعيدة وحتى قريبة، جهات هي نفسها لا تملك معنى الرصانة، ولا تتوافر على مقدار بسيط من ثقة الوسط الأكاديمي الرصين، فكأنَّما أصبحت العلاقة منفعة متبادلة نامية بين كتّاب مشوّهين يحلمون بتلك العلامة الحروفية التي تختصر عادة بحرف (د) وبين مؤسسات هدفها غامض من منح الألقاب الفخرية، ولا يسيرُ الهمّ المعرفي في مدارها، إنَما رصانة مُتخيلة، فنكاد نرى أنَّ المشهد هذا يقترب من الصنوف الهزلية للمسرح أو هو كذلك فعلاً.
 
مجانية بائسة
ويذهب الشاعر صالح رحيم إلى أنه لم يكثر في الآونة الأخيرة الحصول على الدكتوراه الفخرية والجوائز فحسب، بل وعلى المستوى الأكاديمي أيضاً، رسائل وأطروحات بالجملة، بعضها لغرض المكانة الاجتماعية التي تلبي حاجة أو شعوراً بالنقص لدى الذين يجرون وراءها، وبعضها تنطلق من حاجة للمال، وفي المحصلة لا يعني الحصول على شهادة فخرية أو جائزة أو حتى شهادة أكاديمية بهذه الكيفية إلا مظاهر للسفالة والانحطاط، ثمّة دكاكين تمنح الجوائز والشهادات التقديرية، تكتب الرسائل والأطروحات مقابل المال، وبالتأكيد دائماً ثمّة حاجة ملحّة ناجمة عن دونية مخزية، تدفعُ المانحَ والممنوح معاً. 
ويكمل رحيم كلامه: وما دمنا قد اعترفنا بأنَّها مظاهر انحطاط، فأودُّ أن أضيف- وهذا رأيي الشخصي- إنّني فرح بمظاهر الانحطاط هذه، لأنّها كفيلةٌ بعد مرور زمن قصير بالكشفِ عن مجانية وتسطيح كل شيء فريد ونادر في هذا العالم، إنّه زمن التفاهة، فأهلاً به، ومرحباً، فمن دونه لن يحدث شيء ذو قيمة، إنّه ضرورة في الوقت الحاضر تعد بشيء أفضل، هكذا أرى إنّه نوعٌ من حل بتعبير كفافي.