الشخصيَّة الاتكاليَّة.. فشلٌ في إدارة الحياة وغيابُ المستقبل

ريبورتاج 2022/03/02
...

 د. سماء الزبيدي    
نشأت مدللا كما كنت أعتقد، تناول طعامي، ارتداء ملابسي، ذهابي إلى المدرسة وحتى تأدية فروضي المدرسية لم أكن أقوم بأي منها وحدي، كنت معتمداً على أهلي في كل شيء ولم أجد أي تشجيع على أي عمل أقوم به بمفردي حتى وصل بي الحال إلى نقل هذا السلوك معي إلى مدرستي.
                                                                                                                                                
  فكنت أدفع النقود أو أتقاسم ما اشتريه مع أحد أصدقائي مقابل أن يتدافع مع الأولاد ويشتري لي ما أرغب به من حانوت المدرسة أو يحمل عني حقيبتي المدرسية، وتماشى معي الأمر حتى كبرت وأنا أعتمد على غيري في أداء كثير من الأمور البسيطة حتى اصطدمت بخسارة وظيفتي وأنا مسؤول عن أسرة وعليّ توفير ايجار المنزل ومصاريف البيت ووجدت نفسي عاجزاً، لا أملك أي مهارة أو مهنة تعينني على توفير قوت لي ولأسرتي حينها فقط أدركت ما ارتكبه والداي من خطأ بحقي وإني لم أنشأ مدللاً كما يعتقدان، بل صنعا مني شخصية اتكالية تحل كل مشكلاتها بإنفاق المال وعجزت عند عدم توفره بشكل كافٍ، هذا ما يعانيه حسين رزاق.
فالاتكالية حالة اجتماعية تتفشى بين الأطفال واليافعين في الوقت الحالي بشكل يدق ناقوس الخطر للالتفات إليها والتوعية بمخاطرها مع أنها في الجانب الآخر توفر فرصاً رابحة لمقتنصيها.
 
عوامل وراثيَّة ومكتسبة
يلجأ الكثير من الأهل بدافع الحرص المفرط أو بهدف التدليل والتعبير عن حبهم لأطفالهم، لتنفيذ أغلب رغباتهم بسهولة، وبدون ممانعة، حتى يصل بهم الحال إلى حل فروضهم الدراسية بدلاً عنهم، وإغداق المال والهدايا عليهم، وأحياناً الدفاع عن أخطائهم، ما يولد شخصية لا تحب تحمل المسؤولية في أبسط الأمور وتظهر ملامحها جلية وواضحة في سني المراهقة والشباب.
ويشير ولي جليل الخفاجي، باحث اجتماعي إلى «أن شخصية الفرد تتكون من عوامل وراثية وعوامل مكتسبة وتحددها الخمس سنوات الأولى من حياته، فضلاً عن الأهل فإن نظام الدولة له دور في تكوين الشخصية الاتكالية من خلال العجز عن توفير فرص العمل وانتشار البطالة، وعلى الرغم من أن منح العاطلين عن العمل تمثل إعالة لهم إلا إنها تخلق في المستقبل شخصية متكاسلة تعجز عن سد احتياجاتها، وتلجأ إلى الاعتماد على الأهل والدولة، ورمي اللوم عليهم بسبب عجزها».
مرضٌ نفسيّ
من دون وعي كافٍ يؤسس الكثير من الآباء أبناء بشخصيات اتكالية، الأمر الذي تصنفه منظمة الصحة العالمية بأنه نوع من اضطراب الشخصية يمتاز باتكال سلبي على الآخرين في جميع جوانب الحياة الرئيسة والثانوية، والخوف الشديد من الهجر، وتولد مشاعر العجز، والانصياع لمن هم أكبر سناً وضعف الاستجابة لمتطلبات الحياة اليومية، وقد يظهر الافتقار إلى الحيوية في الميدان العقلي والانفعالي، وغالباً ما يكون هناك تحويل للمسؤولية إلى الآخرين، ويدرج هذا النوع من الشخصيات ضمن الأمراض النفسية، نتيجة التنشئة الخاطئة والظروف البيئية غير الملائمة لتربية أفراد أسوياء، وهذا يشير إلى تأسيس جيل يبتعد عن التفكير بعمق، ويرفض الانخراط في المجتمع أو حتى ممارسة أعمال تصب في بناء مستقبله.
 
بابٌ من أبواب الرزق
كثيراً ما يفتح الاتكاليون أبواباً للرزق ومجالات عمل للشخصيات المعتمدة على ذاتها والمقتنصة للفرص، روى أحمد حميد (30 عاماً) ذكريات عن طفولته، وكيف كان يشتري يوم العمل من أخيه ليخرج إلى السوق للعمل مع والده، والحصول على «الإكرامية» من الزبائن ليتطور الأمر معه بعد ذلك ببيع دوره في طابور الأطفال المصطفين لشراء الحلويات من حانوت المدرسة، حتى إنه في المرحلة الجامعية قام بطباعة بحوث التخرج لزملائه الذين لا يودون تعلم استخدام برامج الطباعة على الرغم من أنها كانت مادة دراسية ضمن متطلبات الدراسة مقابل مبلغ مالي، ما دفعه إلى فتح مكتب للطباعة ونشر البحوث في المجلات الأكاديمية، إضافة إلى ملء الاستمارات الخاصة بالمعاملات، مستفيداً على حد تعبيره من الكسالى الذين لا يرغبون بالتعلم او إتعاب أيديهم على لوحة مفاتيح الحاسوب الذي يحملونه بأيديهم. 
 
جيلٌ ضعيفٌ ومجتمعٌ هشّ
لا يرتبط الأمر بغياب الرغبة بتعلم أساسيات تحرك عجلة الحياة اليومية فقط، إنما امتد الأمر إلى تهديد جيل بأكمله ومجتمع بالانهيار، فهم ذاتهم سيكونون يوماً آباء وأمهات يحاولون التملص من مسؤولياتهم، وبانتظار من يحمل عنهم المسؤولية. 
ويبين الخفاجي أن النشأة بين أبوين يحملان هذه الخصائص وفي محيط يرحب بها تؤدي إلى انسحاب ذلك إلى بقية أفراد المجتمع بحالة يطلق عليها السلوك الجمعي، ويمكن لذلك أن يعطي تصوراً عن طريقة وأسلوب أصحاب هذه السمات في تربية أولادهم والأجواء الأسرية التي يمكن أن يهيئوها لهم!، وانعكاسات ذلك على الصحة العقلية والنفسية لأفراد المجتمع والتقدم الفكري
لهم.