مصحات

استراحة 2022/03/16
...

نجم الشيخ داغر
كان يتآكله الحزن كلما نظر إلى زوجته الحبيبة وهي تذوي أمامه وتذبل كزهرة منع عنها الضوء والماء، شريكته في السراء والضراء وأم أولاده التي أصيبت بمرض نادر (الفيبروميالجيا) استهدف جهازها العصبي وخلف آثاراً نفسية وعقلية عميقة، جعلتها أحياناً مصدر خطر على نفسها وأولادها.
فوجئ هذا الزوج المحب وهو في خضم دوامة هائلة من الألم والقلق والخوف من تفكك أسرته الصغيرة التي تضم طفلين، ومراجعات طبية لا تنتهي والقفز من برنامج علاجي إلى آخر، الأمر الذي استدعاه إلى تغيير نمط عمله إلى يومي بدلاً من أسبوع في الواجب وأسبوع في البيت، لكي يتمكن من رعاية طفليه وزوجته المريضة. ا
نتهى به الحال بعد هذا الماراثون الطويل من المراجعات وكلفة مالية باهظة، إلى أن أفضل حل بحسب نصيحة الأطباء هو إيداع زوجته في مصحة حتى تستعيد عافيتها.
كان حلاً جيداً يُمكّنه من الاطمئنان على أن زوجته تحت رعاية طبية مستمرة، فضلاً عن توفير السلامة لطفليه الصغيرين، بيد أن المشكلة الوحيدة والأساسية التي تعرقل هذا المسعى، تتمثل بخلو البلاد من مصحات نفسية أو عقلية بمواصفات طبية توفر للمريض العلاج المناسب وتوصله إلى بر الشفاء.
صدمه هذا الأمر وأغلق أبواب الأمل بوجهه ودفعه للعن الفساد المسؤول عن عدم وجود هكذا مصحات في العراق، اذ لا يتوفر غير مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية ومستشفى الرشاد للأمراض العقلية، اللذين لم يشعراه بالطمأنينة التي تدفعه لإيداع زوجته الشابة في أحدهما، خاصة مع هجرة الكثير من الأطباء النفسيين البارعين إلى خارج البلاد. 
هذه قصة مختصرة عن مواطن عراقي يعاني من عدم وجود مصحات بمواصفات تلبي طموحه، وهي قصة الآلاف مثله. المشكلة والأمر الصادم أننا ومع كثرة المشكلات النفسية التي يعاني منها أغلب العراقيين في ظل الآلام والصدمات جراء الحروب والإرهاب والفساد الذي أدمى أوصاله، لم نر تحركاً حكومياً او أممياً عبر مؤسسات الأمم المتحدة نحو إنشاء أو توفير هذه المصحات مع الحاجة الماسة لها، خاصة وأنا أجزم بمدعاي هذا أن أغلبنا يعاني من مرض نفسي معين، كل بحسبه، إذ من غير المعقول أن كل ما مر بنا من مصائب ونكبات لم يترك ندوباً في أنفسنا وقلوبنا أو أرواحنا المتعبة.
وفي ظل هذا الشح بالمصحات، فضلا عن نظرة أغلب العراقيين السيئة للمريض النفسي، تلجأ الغالبية إلى العلاج بالطب البديل وما يسمى بالعرافين الذين يعمل أكثرهم تحت رداء السحر والدجل والشعوذة، وهذا تقصير ومسؤولية تتحملها جميع الحكومات المتعاقبة أولاً وأخيراً، لذا بات من الواجب التحرك الجاد نحو تطوير الطب النفسي في البلاد وإنشاء مصحات نفسية تتحمل مع مستشفى ابن رشد هذا الحمل الكبير، وبالتالي توفير بيئة علاجية نفسية مناسبة يستحقها العراقي الذي تحمل ما تنأى عن حمله الجبال من مآسٍ وأحزان.