ما الذي خلّفه العنف والموت في ثقافتنا العراقيَّة؟

ريبورتاج 2022/03/23
...

  صفاء ذياب
لم يزل الحزن يشكل الملمح الرئيس في الوعي الشعبي العراقي، بدءاً من مراثي أور، مروراً بانهيار الدولة الأكدية، ومن ثم البابلية، وصولا إلى الاحتلالات التي مرّت على أرضنا واستمرت لقرون طويلة، حتى عد الحزن من مكونات أغانينا وشعرنا ومجمل نصوصنا، غير أن ما خلفته أزمة حرب الثماني سنوات، وحصار التسعينيات، وانهيارات 2003، أدخل ثقافة جديدة إلى ثقافتنا العراقية، وهي ثقافة الموت، فلم يخل نص روائي أو قصة قصيرة أو قصيدة من رائحة الموت والبارود والبكاء الذي لم ينقطع، وهو ما غيّر حتى من بنية تلك النصوص التي بنيت على رؤى تقاليد تعذيب النفس والتمهيد لقبول كل ما هو أسوأ في المستقبل القريب، فضلا عن فقدان الأمل بتغيّر الحال إلى ما يمكن أن يجعل من مستقبلنا أفضل حالٍ من ماضينا. 
 
وهكذا، نرسم نصوصنا بدموع الأمهات، ودماء الشهداء، وذكرى المفقودين، وبمراجعة مختلفة مع نقاد وباحثين، يمكننا طرح تساؤلنا بطرائق عدة: فكيف نفهم الموت في الثقافة التي ينتجها الكاتب العراقي، في الوقت الذي كان عليه أن يشيع ثقافة الحياة؟.
 
تغريد البلبل
يرى الدكتور علي حداد أنه لا خلاف على أن الثقافة تأسيس قيمي متسع يعايشه الوجود الإنساني، ويخبر من خلال مرتكزاته السلوكية والقيمية وتفوهاته الجمالية عن راهنية ما ينشد إليه ويشغله، لتبث تلك الثقافة عبر مكاشفاتها كثيراً مما يعايشه الواقع، وهو ما تتملاه عين المثقف بوعي وارتهان معرفي مؤثر، وبما يخبر عن دوره في هذا الخضم من  الوقائع ليكون (شاهداً ومبشراً ونذيراً)، فهو يباصر اشتغالات ما حوله، ليرصدها ويؤشر متعيّنها ويضعها في أعلى رفوف التلقي مخبراً عما تكتنفه، سواء أكانت موجبة التأشير أم سالبته، لينادي بالأولى مبشراً، ويجاهر بدعواه المنذرة عن الأخرى.
غير أن واقعاً- كالذي نحن فيه- يتلبسه السوء والرداءة والخراب القيمي، وتسيّد الجهلاء والفاسدين ومناوئي يقيننا الوطني، لا يمكن له أن يضع أمام المثقف- حين يكون نقي الضمير- سوى مرآة معتمة وصدئة البوح، تحول بينه وبين المناداة بناصع الحياة والتغني بنضح تفصيلاتها، إلا حين يراوغ وعيه، ويذهب عنه بعيداً إلى حيث الغد، له أن يتخيله، ليكتب عن الحياة وخضرة أيامها الموعودة، وهي مماحكة ليست متاحة لكل ذي بصيرة، إذ كيف تضع بلبلاً فوق خرابة متداعية وتريده أن يغرد.
 
أمل قادم
وبحسب الدكتور خالد حوير الشمس، فالكتابة العراقية ملمح انثروبولوجي بارز، يحتضن عدداً من الأفكار التي أدخلت في حيز وجود مؤدلج ليس لنا الحق في رفضه، لأن الحزن العراقي تمثل من تمثلات الذات كما ليس لها الحق في فرض اشتغالاتها، يعيش الخطاب العراقي التحدي في العصر الحديث، ويعول على إبراز ثقافة الموت، وموقفه منها، ثم يصدرها للمتلقي الند، عبر أسطرة حوادث ذلك الموت، ونسجه عبر الغرائبي، ليكون ذلك الخطاب غير متجاوز للسرديات الكبرى التي تنجز مقاصد التماهي بين المتلقي والكاتب العراقي الذي يمارس سلطة الكتابة الناعمة على ذلك المتلقي غير المثالي، فيجب حضور النقد القائم على فهم السرديات الكبرى ليحقق ثقافة الحياة بعيداً عن التشاؤم، والهدم، وقريباً من الأمل، الذي يعني
الحياة.
 
غاية الموت
وغالباً ما يسأل الكاتب والصحفي قيس حسن نفسه، كيف لبلد في اللحظة  التي يصل إلى السلطة حزب شمولي، قمعي، يعلي من شأن العنف والإرهاب ويرافق ذلك إدخاله في حرب هي الأشرس والأكثر قسوة؟، أية لحظة كانت هذه التي جمعت عنف السلطة وعبثية الحرب ودمويتها؟، حسب تصوري يمكن أن نفهم صعود لغة الموت والحزن والسوداوية مع جيلنا الذي كان وقود الحرب والحزب معاً، بدءاً من نهاية السبعينيات وصعوداً إلى اليوم، يمكن العودة إلى كلمات الأغاني وقصائد الحرب، لنجد كيف تحول الموت إلى أهزوجة وأغنية وانحسرت الأغنية العاطفية وكذلك الأمر مع الأدب والفن، تحول خراب البلد وثرواته إلى نصر، وتحول الأدب والثقافة إلى الحرب والموت بدل السلام والحياة، الحرب والحزن كلاهما كانا يرسخان من شأن الدم، وبات العراقي محاصراً بين الموت في الأرض الحرام، والموت في أقبية السجون، كيف انتهى الأمر؟، انتهت الحرب العراقية الإيرانية ودخلنا في حرب أخرى أكثر بشاعة ثم انتهت بحصار، لا يعرف معنى وحشيته إلا من عاشه، ثم نكمل سلسلة الألم مع حرب ثالثة رافقتها حرب أهلية أذهلت العالم، والمفارقة المؤلمة أن كل هذه الأحداث والآلام تأتي وسط ثقافة تعتبر الموت من أجل الوطن، والدين، والشرف، والعشيرة، والحزب غاية الآمال.
 
أدوات الحياة
ويشير الدكتور مازن المعموري إلى أن ثقافة الترويج لثقافة الموت, تكمن في أنها تابعة دائماً لثقافة الأيديولوجيا، ويقصد هنا ثقافة الدولة المؤدلجة وفقاً لفكرة القين، سواء كانت قومية أو يسارية أو دينية.
وفي كل الأحوال، فإن من يسير وفقاً لمنظومة سابقة على النص الأدبي يتحول نصه إلى منصة للترويج الدعائي للمرجع السياسي أو الحزبي أو الديني أياً كان، وهذا المنظور ضد جوهر العمل الأدبي والفني العميق في رؤيته للحياة والكون، وهنا أستطيع القول: إن ثقافة الموت تبدأ من فشل داخلي يسود روح الكاتب
أو الفنان.
ويضيف المعموري: هناك أمثلة كثيرة في ثقافتنا العراقية مارست ثقافة الموت من قبل كل من دعم الدكتاتوريات السابقة، والآن كل من دعم ثقافة الاحتراب الطائفي والتنكيل بالمختلف دينياً وثقافياً ونحن نعرفها جميعاً، ولست هنا بمعرض التشهير بقدر ما أنا بمعرض التساؤل والإشارة والتنبيه، إذ لا يمكن الإشادة بثقافة الموت التي تؤسس لمسخ الإنسان وجعله مجرد أداة للعمل من أجل فكرة طوباوية غير مجدية في مضمار
الحياة. أما في مجال ثقافة الحياة، فأنا على تصور خاص يؤكد  مفهوم الكشف الذي يحتويه النص الأدبي ويسهم في تفسير الظاهرة بصفته محيطاً تجريبياً للفكرة وليس أداة للدعاية أو منبراً للترويج لأية جهة كانت سوى المحيط الاجتماعي وهو جوهر الوظيفة الأدبية للثقافة التي يجب أن تكون على المحك الدائم بين المبدع والمجتمع وتكوين جذوة الوعي المجتمعي بالحياة وجوهرها القائم على مفهوم التعايش والاختلاف والتنوع.
 
فكرة الحياة
ويبين الكاتب والمسرحي حيدر عبد الله الشطري أن فكرة الموت التي طالما تناولها الكاتب العراقي تتمظهر في الأدب بكل أجناسه في عدة صور يكون بعضها لغايات استهلاكية، ومنها الاستغلال السياسي لهذه الفكرة وترويجها كونها تمثل الشهادة بمفهومها الأحادي الجانب مرة وأخرى صورة للرفض السياسي، وبذلك يكون تسويقها بهذا الشكل خالياً من المعاني والدلالات الكبيرة أمام فكرة الحياة التي بالإمكان أن تُبنى على مشروع تنويري تحدوه فكرة الأمل والنظر إلى المستقبل من زوايا أكثر إشراقاً، ولكن ذلك يتعارض مع الطروحات التي تصور الوطن وكأنه مقبرة كبيرة وليس ذاكرة مفتوحة على أحلام كثيرة نسعى إلى تحقيقها، ونلاحظ ذلك كثيراً في كتابات الشباب الذين عاشوا الموت قبل أن يعيشوا الحياة، فكان خياراً لا مفر منه في تجسيد الموت في كتاباتهم وعدم العبور عليه باعتباره نهاية حتمية لمسيرة حياة تمتد طويلاً، كان الأجدر أن يكتبوا عنها قبل أفولها، كما أن إشاعة هذه الفكرة (أي فكرة الحياة) وتبنيها هي الحالة الثورية المثلى في الكتابة لأنها تسعى إلى تغيير الظروف المأساوية التي يعيشها والانتقال من هاوية الفقد والألم إلى مثابات الطمأنينة والمحبة
 والوئام.